رأي - نحو رؤية جديدة للمواجهة
مع إعلان اتفاق وقف الحرب الذي رعاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب, بدا وكأن الصراع العربي الإسرائيلي يدخل طورًا جديدًا, لا لأن النار خمدت فعلاً, بل لأن ما بعد الصمت يحمل في طيّاته أسئلةً أكبر من الحرب نفسها. لقد أصبح واضحًا, وربما أكثر من أي وقت مضى, أن السعي إلى "زوال إسرائيل" عبر الوسائل العسكرية التقليدية ليس مجرد مسارٍ مسدود, بل هو رهان خاسر منذ البداية. فالعقود التي مضت أثبتت أن موازين القوة المادية والتكنولوجية والسياسية لا تسمح بانتصارٍ عسكري على كيانٍ محميٍّ من القوى الكبرى, ومدعومٍ من منظومةٍ عالمية ترى فيه مشروعها المتقدّم في المنطقة. لكن هذه الحقيقة لا تعني القبول بالأمر الواقع أو رفع الراية البيضاء, بل تدفعنا إلى إعادة النظر جذريًا في مفهوم "المواجهة" ذاته, وإعادة تعريف معنى "المقاومة" بما يتجاوز البندقية إلى أفقٍ أوسع, أكثر تعقيدًا وفاعلية.
أولاً: فشل المقاربة العسكرية
على مدى أكثر من سبعين عامًا, ظلّت المنطقة العربية تدور في حلقة مفرغة من المواجهات العسكرية المحدودة والانتفاضات الشعبية المتقطّعة, دون أن ينجح أي منها في تغيير بنية المشروع الصهيوني أو زعزعة دعائمه. السبب في ذلك ليس في ضعف الإرادة, بل في غياب التوازن البنيوي في عناصر الصراع. فإسرائيل ليست كيانًا عسكريًا فحسب, بل منظومة متكاملة تستمد قوتها من شبكةٍ متشابكة من الدعم الدولي, والتمويل الغربي, والتفوّق التكنولوجي, والتكامل بين أذرعها الاقتصادية والإعلامية والاستخبارية.
- الدعم المطلق من القوى الكبرى: منذ تأسيسها, كانت إسرائيل مشروعًا غربيًا في المنطقة, تَبنّته بريطانيا أولاً, ثم احتضنته الولايات المتحدة بكل ما تملك من نفوذٍ سياسي واقتصادي وعسكري. هذا الدعم لم يكن مجرّد مساعداتٍ مالية أو أسلحةٍ نوعية, بل ضمانة وجودٍ واستمرار. أي مواجهة عسكرية مباشرة معها, من أي طرفٍ إقليمي, تتحوّل تلقائيًا إلى مواجهةٍ مع الولايات المتحدة نفسها, بما تحمله من أدوات الردع والحصار والابتزاز.
- انعدام السيادة الصناعية والعسكرية في العالم العربي: لا توجد اليوم أي دولةٍ أو كيانٍ عربي يملك صناعةً عسكرية سيادية متقدّمة, يمكنها أن توازن ولو جزئيًا القدرات الإسرائيلية. الأسلحة المتوفّرة إما محلية الصنع بتقنياتٍ متقادمة, أو مستوردة من دولٍ لا تمنح أحدث ما لديها, لأسبابٍ تتراوح بين السياسة والتبعية الاقتصادية. في المقابل, نجحت إسرائيل في بناء منظومةٍ تكنولوجية متكاملة بدعم وتمويل غربي لا محدود, تمتد من صناعة الطائرات المسيّرة إلى الذكاء الاصطناعي, ومن الدفاع الصاروخي إلى الأمن السيبراني, ما يجعل أي مواجهة معها, في المدى المتوسط على الأقل, غير متكافئة.
- غياب المشروع المتكامل: الخلل الأكبر لا يكمن فقط في ضعف التسليح, بل في غياب "المشروع" ذاته. فالقوى التي ترفع شعار المقاومة تفتقر غالبًا إلى رؤيةٍ شاملة تمتد إلى الاقتصاد والسياسة والمجتمع. التركيز المفرط على البعد العسكري جعل المجتمعات التي تتحرك فيها هذه القوى هشّة, منهكة, وغير قادرة على الصمود في وجه الأزمات. لقد تحوّل شعار "التحرير" في بعض السياقات إلى عبءٍ داخلي, حين أصبح يبرّر الاستبداد أو الانقسام أو الفشل الاقتصادي, بدل أن يكون حافزًا لتماسكٍ وطني ومؤسسي.
- مأزق الخطاب الديني والفئوي: لا يمكن مواجهة مشروعٍ يقوم على التفوّق الديني والعرقي بخطابٍ مماثل له في الجوهر. فحين تُقدَّم "المقاومة" بوصفها مشروعًا مذهبيًا أو دينيًا بحتًا, فإنها تفقد قدرتها على جذب الآخر, وتُحاصر ضمن دائرةٍ ضيقة لا تختلف جوهريًا عن دائرة خصمها. إنّ من يريد مقاومة مشروعٍ عنصريٍّ مغلق, عليه أن يبني خطابًا إنسانيًا منفتحًا يقوم على التعددية والاختلاف, لا على إعادة إنتاج الانغلاق الذي يزعم محاربته.
ثانيًا: نحو مقاربة جديدة للمواجهة
إنّ إدراك حدود الخيار العسكري لا يعني التخلّي عنه, بل تطويره بما يتناسب مع تعقّد المواجهة ووضعه في مكانه الطبيعي: كأداةٍ من أدوات الصراع, لا كخيارٍ وحيد. المطلوب اليوم هو إعادة بناء مفهوم "المواجهة" ضمن مشروعٍ طويل الأمد, متعدّد الأبعاد, يستهدف بنية القوة الإسرائيلية في عمقها لا في حدودها فقط.
- المواجهة الاقتصادية والتكنولوجية: أكبر نقاط القوة الإسرائيلية اليوم ليست في ترسانتها العسكرية فقط, بل في قدرتها على لعب دورٍ اقتصادي وتكنولوجي محوري في المنطقة والعالم. من الشركات الناشئة في مجالات الأمن السيبراني إلى تصدير التقنيات الزراعية والطبية, بنت إسرائيل لنفسها موقعًا يجعلها لاعبًا لا غنى عنه في العديد من الأسواق. مواجهة هذا النفوذ لا تكون عبر تطوير بدائل اقتصادية حقيقية, واستثمارات في التعليم والبحث العلمي, وتشبيك التعاون الصناعي بين الدول الراغبة في المواجهة. يجب أن يكون الهدف إفقاد إسرائيل تدريجيًا لميزتها التكنولوجية من خلال منافسةٍ جادّة.
- تفجير التناقضات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي: المجتمع الإسرائيلي متوتر ومنقسم في داخله, ويلتهمه التطرّف يوما بعد يوم. إنّ تصعيد الخطاب اليميني داخل إسرائيل, ودفعه إلى أقصى مدى, يمكن أن يتحوّل إلى سلاحٍ فعّال لتفتيت البنية الداخلية للمجتمع. يكون ذلك عبر توظيف أدوات الاستخبارات والإعلام والتواصل الاجتماعي لتحليل وتضخيم ونشر تناقضات الخطاب داخل الكيان, وإبراز الفجوة بين مكوّناته بما يُعمّق الشقاق الذي رأينا بوادره في مرحلة ما قبل 7 أكتوبر.
- بناء لوبيات ضغط دولية: في زمنٍ لم تعد فيه المعارك تُخاض في الميدان فقط, بل في مراكز القرار والإعلام, يصبح بناء لوبيات ضغط عالمية أمرًا ضروريًا. ينبغي أن تتشكّل جبهة متماسكة من مجموعات الضغط والمنظمات الحقوقية والأصوات الأكاديمية والفنية التي تعمل وفق استراتيجية موحدة لا ظرفية, تهدف إلى التأثير في الرأي العام العالمي, واختراق مراكز القرار بطريقةٍ ذكية ومدروسة. لقد نجحت مجموعات صغيرة, كحركات المقاطعة الأكاديمية والثقافية, في إحداث صدًى ملموس في الجامعات والمؤسسات الغربية. المطلوب الآن هو الانتقال من الجهد الفردي إلى الجهد المنظّم والمؤسسي.
- تحصين الداخل: لا يمكن خوض أي مواجهة فعّالة ما لم يكن البيت الداخلي متماسكًا. الإصلاح السياسي, ومحاربة الفساد, وبناء دولة القانون, ليست شعاراتٍ إصلاحية فحسب, بل شروطٌ استراتيجية لأي مشروع مواجهة. فالدولة التي تفتقد العدالة الاجتماعية, وتُدار بمنطق الزبائنية, لا تستطيع أن تكون طرفًا قويًا في صراعٍ بهذا الحجم. المقاومة لا تُبنى على الفقر واليأس, بل على مجتمعٍ مزدهرٍ ومواطنٍ واثقٍ بكرامته ودولته.
- تفعيل الأدوات القانونية والإعلامية الدولية: العالم اليوم محكومٌ بمنظومةٍ من القوانين والمؤسسات الدولية التي, رغم انحيازها, تظل ساحة يمكن العمل داخلها. يجب توظيف القانون الدولي وحقوق الإنسان كمساحات ضغطٍ متواصلة, عبر حملاتٍ منظمة تُبرز انتهاكات الاحتلال, وتُحوّل كلّ جريمةٍ إلى ملفٍّ قانونيٍّ يلاحق إسرائيل في المحافل الأممية حتى إنهاكها وعزلها قدر الإمكان. إلى جانب ذلك, على الإعلام أن يتحوّل من أداة تعبئةٍ عاطفية إلى منصّةٍ استراتيجية تُخاطب العقل العالمي, كلّ بلغته, وتُنتج سردياتٍ جديدة تُقنع ولا تُفزّع.
- منظومات دفاع وطنيّة شاملة: من الضروري إعادة تصميمٍ العمل العسكري ضمن إطار مؤسّسي متكامل يتضمن إطار قانوني وشفاف للواجب الدفاعيّ, منظومة تدريبية دائمة تشمل الاحتياط وباقي الفئات المؤهلة للمشاركة, تطوير صناعة دفاعية وطنية قابلة للصيانة والتحديث, وبنية لوجستية تخدم الاستدامة في زمن الحرب (إمدادات, طاقة بديلة, طرق اتصالات آمنة, مستشفيات ميدانية مُهيأة). إضافةً إلى البُنية المادية, فهناك البُعد الاجتماعي. يتطلب تشكيل "مجتمع حرب" مدني ومؤسسي برامجًا للتضامن الاجتماعي, شبكات أمان اقتصاديّة تحمي الفقراء والشرائح الضعيفة من تكاليف الحرب, وسياسات إعلامية وتربوية تروّج للتماسك الوطني بدل الخطاب الطائفي. ويجب أن تشمل هذه السياسات مشاركة فعّالة لمختلف فئات المجتمع في مهام غير قتالية وأساليب دعم مدني, فضلاً عن إشراك الكفاءات التكنولوجية والعلمية في جهود الدفاع والبحث والتطوير. من الناحية السياسية, لا بد أن يخضع هذا المشروع لإشراف واضح خاضع للرقابة والمحاسبة ويحافظ على فصل السلطات وضوابط مكافحة الاستبداد. التحصين الوطني المطلوب لا ينبغي أن يكون مبرّرًا لقمع الاختلاف الداخلي أو لتفويت الحريات. وأخيرًا, إنّ التحوّل إلى منظومة دفاع وطنية متكاملة يزيد من قدرة الدولة والمجتمع على امتصاص الصدمات, ويحوّل تكلفة النزاع من عبء ينهك دويلة أو فصيلًا إلى عبء مُدار وموزّع ضمن إطارٍ وطني جامع قادر على الاستمرار في مواجهة الأزمـات طويلة الأمد.
ثالثًا: في معنى المقاومة اليوم
المقاومة ليست بندقية فحسب, بل منظومة قيمٍ وفعلٍ ومعرفة. فحين تتحوّل إلى طقسٍ مقدّسٍ منفصل عن التفكير, تفقد معناها وتتحوّل إلى عادة. إنّ المقاومة الحقيقية اليوم هي في بناء مجتمعاتٍ قادرة على إنتاج المعرفة, التكنولوجيا, الفنون, والاقتصاد. في خلق جيلٍ قادرٍ على المواجهة في مختلف المجالات, لا حصر الصراع بطابع عسكري فقط. هزيمة إسرائيل لا تكون فقط في ميدان القتال, بل في أن ترى مجتمعاتنا وهي تنهض وتُعيد تعريف ذاتها كقوةٍ منتجةٍ ومبدعةٍ ومتصالحةٍ مع تعدديتها.
أخيرا: من المقاومة إلى البناء
إنّ الاتفاق الأخير, مهما كانت دوافعه ومآلاته, يجب أن يُقرأ كفرصة لإعادة التفكير, لا كخيانة أو هزيمة. فالمعارك الكبرى لا تُحسم في الجبهات, بل في العقول. قد يكون علينا أن نعترف, بجرأةٍ وصدق, أنّ مشروع "التحرير الكامل" بالسلاح وحده لم يعد ممكنًا في ميزان القوى الحالي. لكن هذا لا يعني الاستسلام, بل الانتقال إلى مرحلةٍ أكثر نضجًا وذكاءً: مواجهة المشروع الصهيوني بمشروعنا العلمي, الاقتصادي, الثقافي, والقانوني الذي سيمتدّ لعقود, ويستند إلى مؤسساتٍ لا إلى شعارات. حين نصبح قادرين على إنتاج المعرفة لا استيرادها, وعلى صناعة السلاح لا شرائه, وعلى بناء المجتمعات لا تفتيتها, عندها فقط يمكن القول إننا بدأنا مسيرة التحرير الحقيقية.
تعليقات
إرسال تعليق