رأي - فليحكم الإخوان!

 



إن الهدف النهائي لأي نشاط سياسي ينبغي أن يكون السعي الى تحقيق حياة أفضل للأفراد في مجتمع معين, في سياق مسعانا البشري للوصول الى السعادة. هذا ما يجب أن يستوطن عقل أصحاب القرار والفاعلين في أي صراع سياسي أينما كان.

إن انحراف المشتغلين بالسياسة عن هذا الهدف – تحقيق السعادة – لا يعني فساد السياسة بعينها وبالتالي ابتعادنا عنها, بل يعني ضرورة استمرارنا في محاولة تقويم الإعوجاج كما نراه أو كما يراه غيرنا, في علاقة بينيّة تبادليّة لأفكار متنوّعة. هذه العلاقة تدعونا الى إفساح المجال أمام من يملك الرؤية والأهلية لأن يكون في موقع المسؤولية, وفي حالة المجتمعات الحديثة والمعاصرة التي ترتبط بعقد إجتماعي, يكون إفساح المجال أمام من يملك الأكثرية, وبالتالي تجربة رؤى وتطلعات الأغلبية لإختبار مدى نجاعتها وقابليتها للتطبيق, وفي حال الفشل, يتم الخوض في تجربة أخرى, وهكذا دواليك.

في حالة الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية, وفي هذا النص سأصطلح على تسميتها بالمجتمعات المخطوفة, لم يكن التطور السياسي مكتسبا بالتجربة, بل كان بشكل أو آخر محاولة مشوّهة لاستنساخ خلاصات التجربة الأوروبية وتطبيقها على مجتمعات لم تخض بعد ما خاضه الأوروبيّون من أحداث ومنعطفات تاريخية. رغم ظهور بوادر لنشاط معرفي يسعى لإنتاج فكر نابع من التجربة المحلية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, كجمال الدين الأفغاني, إلا أن هذه المحاولات أجهضت أولا على يد الملكيات المرتهنة لمصالحها أو لمصالح رعاتها الغربيين وثانيا على يد موجات العسكريتاريا المتلبسّة بالقومية والوطنية.

لم يعرف هذا الجزء من العالم, منذ انتهاء الوجود المباشر للاستعمار فيه, أي سيادة تذكر على قراره ومقدراته, بل ظل رهينة لرغبات وتوازنات ومصالح دوليّة متقلّبة انعكست على تركيبة المجتمعات وعقليتها وفعاليتها. لم يتم في أي مرحلة من المئة سنة الماضية السماح لهذه المجتمعات المخطوفة من أخذ زمام أمورها والخوض في جميع أشكال التجارب والنظريات في الحقل السياسي والدولتي, فعند كل منعطف أو بارقة أمل لنجاح مجتمع ما بالسير في طريق خطه لنفسه, كانت له السلطة أو الخارج بالمرصاد. إن انعدام التجربة السياسية الفعلية أدخل المجتمعات في دائرة مغلقة من التخيلات والأحلام, المتشبّثة بالتاريخ أو المهووسة بالغرب, وسط خواء في المجال العام تتضارب فيه حروب المصطلحات بين التكفير والرجعيّة, من دون أي تغيير يذكر.

فهل مررنا بتجربة العلمانية فعلا؟ أو هل أعطينا فرصة للأحزاب الدينية أن تحكم؟ أو هل شهدنا تطبيق مفاهيم القومية أو الوطنية على أرض الواقع؟ جوابي هو لا. كل ما شاهدناه هو تعاقب زمر من الأفراد, كانوا ملوكا أو ضباطا أو أفرادا عاديين, على كراسي الحكم وتسخيرهم مقدرات دولهم وشعوبهم لغايات ضيقة بعيدة عن الصالح العام في غياب الرقابة والمحاسبة. فمن حزب البعث في العراق الى جمهورية الضباط في مصر الى الأسرة العلوية في المغرب, يتجسّد الحكم في صورة شخص, ويصبح الشخص هو الدولة والقرار. لم تبنى المؤسسات لكي تحمل عبء المجتمع, بل لتخدم مصالح فئة, فأصبح الخوف من أن تصبح هذه المؤسسات في يد طرف آخر, لا خوفا من تسلط الطرف الآخر على المجتمع. فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية ساحقة في انتخابات الجزائر سنة 1991 وفاز حزب الحرية والعدالة برئاسة مصر سنة 2012, فكانت النتيجة انقلابا من العسكر على ما قرره الشعب, فضاعت فرصة تجربة حكم, لم نستطع إثبات نجاحها أو فشلها.

إن اعتمال الأفكار داخل المجتمع من دون خروجها الى العلن والسير في طريقها الى المجال العام لتأخذ حيزها من النقاش والبحث والتطبيق ومراجعة النتائج لتحسينها أو التخلص منها سيبقي هذا المجتمع في محدوديته وتحييده عن الشأن السياسي في الحيّز الذي ينتمي إليه. وفي وضعنا الحالي, منذ بداية الثورات العربية, لم تتح فرصة أمام أي شعب بما فيه الكفاية ليعيش أي تجربة بمداها الطبيعي, حتى ثورة تونس التي اعتبرت نجاحا يتيما, تعيش منذ 2015 تكرارا لإعلان حالة الطوارئ والقرارات الاستثنائية كحل مجلسي البرلمان والقضاء في 2021 في عودة لشبح الاستئثار بالسلطة, الذي ظن التونسيّون أنهم تخلّصوا منه في 2011.

في الوقت الراهن, يعيش المجتمع السوري في أجواء مرحلة انتقالية بين حكم البعث الذي أفرغ الحياة السياسية في سورية من معناها وتسبب بضرر جسيم لوعي ومنظور السوريين عن أنفسهم وعن مجتمعهم نتيجة البطش الأمني وزرع الشك والقلق في نفوس الأفراد. فهل مجيء التيارات الإسلامية للحكم هو الحل أو سيكون مشكلة إضافية؟ وهل خطاب المكونات والطوائف سيرمّم ما كسره النظام البائد خلال فترة استبداده؟ إن المسؤولية الملقاة على عاتق من يتصدّون لمهمّة بناء الدولة في سورية اليوم تتطلّب بالدرجة الأولى العودة الى أصحاب الدولة الأصليين, المجتمع السوري نفسه, وضمان مشروعية السلطة بانبثاقها من وسطهم مع بذل الجهد لتحييد السلاح عن موازين القوى الداخلية ومجابهة التأثيرات الخارجية عبر تحصين القرارات بالوحدة الداخلية. عندها, إن حكم الإسلاميون أو حكم الإلحاديون, سيكون الحكم مصدره المجتمع ومرجعه المجتمع, ويبقى الزمن حاكما وناظرا لكل الطروحات.

وفي جميع الأحوال, فإنّ الحلّ لن يأتينا على شكل قائد مخلّص ملهم زاهد في الدنيا, بل سيأتينا حينما نتقبّل تعددنا وتنوعنا واختلاف طروحاتنا واتفاق مصالحنا كأفراد مجتمع واحد يسعى لسيادته واقتداره وحريته. الحلّ هو نحن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رأي - شو رح يصير فينا؟

ملخّص - مؤتمر وادي الحجير وآثاره - منذر محمود جابر