ملخّص - مؤتمر وادي الحجير وآثاره - منذر محمود جابر
يتناول هذا الملخّص موضوع مؤتمر وادي الحجير لا بوصفه حادثة عابرة, بل كحدث مفصلي شكّل تحوّلًا في الوعي السياسي في جبل عامل, وعبّر عن موقف جماعي رافض للاحتلال الفرنسي. لقد جاء هذا المؤتمر في سياق انهيار الدولة العثمانية, وبدء النفوذ الاستعماري الفرنسي والبريطاني, كما ثبتته اتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو, وما تبعهما من تفتيت سوريا إلى دويلات.
هذا الملخّص هو لكتاب "مؤتمر وادي الحجير وآثاره" تأليف منذر محمود جابر
ما ميّز مؤتمر وادي الحجير أنه أول محاولة سياسية جماعية في جبل عامل تتجاوز الولاءات العائلية والمذهبية, وتدعو صراحة إلى الوحدة السورية ورفض الانتداب. رغم قلة المصادر حوله وتكتّم المشاركين, فقد سعيت لجمع الوثائق المتاحة, واستندت إلى شهادات ومذكرات نادرة, لمحاولة رسم صورة متكاملة عن المؤتمر وسياقه ونتائجه.
قسّمت هذه الدراسة إلى أربعة فصول تتناول الحالة السياسية, وظروف انعقاد المؤتمر, ووقائعه, ثم نتائجه. ورغم خصوصية جبل عامل, فإن ما جرى فيه يُعبّر عن تجربة وطنية قابلة للقياس على مناطق أخرى, في وجه الاستعمار والتقسيم.
الفصل الأول
جبل عامل, هذا الامتداد الجغرافي والتاريخي في جنوب بلاد الشام, ظلّ عبر العصور يحتفظ بخصوصيته, سواء من حيث التكوين السكاني أو من حيث التجربة السياسية والاجتماعية التي مرّ بها في ظل الحكم العثماني, ثم لاحقًا تحت وطأة الاحتلال الفرنسي. يعود اسم "جبل عامل" إلى قبيلة عاملة اليمنية, التي نزلت هذه البلاد منذ قرون, وتشكّل هذه التسمية مدخلًا لفهم الارتباط العميق بين الأرض والناس, بين التاريخ والهوية. تتقارب روايات المؤرخين حول الحدود التي يمتد إليها هذا الجبل, من نهر القرن جنوبًا حتى الشوف شمالًا, ومن البحر غربًا إلى وادي التيم شرقًا, بمساحة تقدّر بثلاثة آلاف كيلومتر مربع.
السكان في غالبيتهم العظمى من الشيعة الإمامية, إلى جانب أقليات من السنة والموارنة والدروز والأرثوذكس. وتُظهر الإحصاءات التي تعود إلى عشرينيات القرن العشرين أنّ عددهم كان يربو على مئة ألف نسمة, يتوزعون على مدن وبلدات كصيدا وصور والنبطية وبنت جبيل والخيام وغيرها. النظام الاجتماعي السائد هو الإقطاع, وقد ورثت عائلات كبيرة – كآل الأسعد وآل الصلح وآل بزّي وآل عبد الله – السلطة والنفوذ منذ قرون, متوارثة النفوذ من زمن المعنيين إلى الشهابيين. وكان الفلاح العامل في الأرض يدفع الضرائب للإقطاعي, لا بل يتحمّل أعباء "العادات" التي فُرضت عليه تحت مسميات الميري والعيدية والحلاوة, في ظل استغلالٍ قانوني واجتماعي قاسٍ يشرّع استملاك الأرض ويكرّس التبعية, حيث بلغ عدد المحرومين من الملكيّة حوالي 90% من مجموع السكان العامليّين. إضافة الى السخرة, حيث كان يأتي الناطور مناديا: "يا فلّاحين, يا فلتيّة, عن أمر الوكيل, أمر الأفندي, بكرا كل واحد بياخد فدّانو وبذراتو ويحرث للبيك في مكان كذا وكذا".
في ظل هذه التركيبة, كانت الحالة الاقتصادية متردية. فقد أدت التفرقة المذهبية التي فرضتها الدولة العثمانية إلى حصار اقتصادي, فأغلقت الأبواب أمام العامليين للهجرة والعمل في مدن الداخل كدمشق وفلسطين. الحرب العالمية الأولى كانت قاسية, تركت الناس جياعًا, تتناقص أرزاقهم وتنهار زراعتهم, لا سيما مع مصادرة المحاصيل, وانتشار الأوبئة, وغياب القوة العاملة بفعل التجنيد الإجباري الذي استثنى غير المسلمين. الفقر دفع بعض السكان إلى الهروب من الجيش, ومنهم من تحوّل إلى حياة الفرار في الجبال والقرى, وتكوّنت العصابات الأولى, لا كمشروع مقاوم, بل كضرورة للبقاء.
ورغم كل هذا, لم يكن جبل عامل بعيدًا عن الحراك السياسي. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر, شارك رجاله في مؤتمرات عربية تطالب باستقلال سوريا عن السلطنة العثمانية, كما حصل في مؤتمر دمشق سنة 1878, حيث مثلهم فيه السيد محمد الأمين, الحاج علي عسيران, الشيخ علي الحر وشبيب باشا الأسعد. ومع اشتداد حملة التتريك, بدأت الجمعيات العربية تنشط, وكانت للمنطقة مشاركتها في تأسيس فروع لهذه الجمعيات في صيدا والنبطية. لكن الحكم العثماني لم يكن متسامحًا, فكان الرد بالقمع والاعتقال, كما حدث مع عدد من رجال الدين والسياسة العامليين الذين سُجنوا في عاليه بتهمة النشاط المعادي, وأعدم منهم عبد الكريم الخليل.
وحين اندلعت الثورة العربية, لم يكن الحماس لها موحّدًا بين زعماء جبل عامل. فالبعض – وخصوصًا من المتنفذين – تخوّف من نتائجها, وفضّل التريث حفاظًا على مكانته. الأمير فيصل نفسه حاول استمالة كامل بك الأسعد, وأرسل إليه من يحثّه على الانضمام, لكن الحذر بقي سيد الموقف. غير أن الجماهير, على العكس, عبّرت عن ميل واضح نحو الثورة والوحدة السورية.
ثم جاءت لحظة دخول الفرنسيين, في ظاهرها الخلاص من الحكم العثماني, لكن سرعان ما انكشفت نوايا الاحتلال الجديدة. الفرنسيون, الذين وعدوا بالتحرير, شرعوا بتقسيم سوريا إلى دويلات, وشكّلوا سلطة عسكرية احتكارية. ومع الانسحاب العثماني, تشكّلت في جبل عامل حكومات محلية قصيرة العمر, منها حكومة صيدا بقيادة رياض الصلح, التي اعتبرها كامل الأسعد تهديدا له, فعقد اجتماع في النبطيّة لإسقاط حكومة رياض الصلح, وانقسمت العائلات بين الصلح (عسيران, الخليل, أبو خليل) والأسعد (عبد الله, بزّي, الفضل) , لكن سرعان ما أطاح الاحتلال بحكومة الصلح بحجة حفظ الأمن. وفي خضم هذا الصراع, عبّر العلماء وكبار الشخصيات الدينية, وعلى رأسهم السيد محسن الأمين, عن تأييد صريح للوحدة السورية. أرسل هؤلاء وفدًا إلى دمشق لتهنئة فيصل, وليؤكدوا أن جبل عامل ليس كيانًا طائفيًا منفصلًا, بل جزء من الأمة العربية, وأن خلاصه لا يكون إلا في إطار الدولة السورية المستقلة. عند عودة الوفد من دمشق الى بيروت, طلب الجنرال غورو الاجتماع برجال الطائفة الشيعية, فذهب منهم الشيخ يوسف الفقيه والسيد عبد الحسين شرف الدين وكامل بك الأسعد وآخرون, وأدخل الأسعد على غورو وخرج مستبشرا بالقول "جئتكم بالبشارة الكبيرة, الإلتحاق بلبنان", ما أدى الى رد فعل معارض من الوفد صرّح عنه الشيخ الفقيه بأن القرار لا يعود لشخص, بل يجب التداول بين العلماء والوجهاء جميعا.
عندما حضرت لجنة كينغ-كراين, كان موقف شيعة جبل عامل واضحا وصريحا بطلب الإنضمام الى سورية, ففي وفد من مائة عضو, تحدّث السيد شرف الدين بكلام "أفضيتُ خلاله بتصوير رغبات الأمة وأمانيها في الوحدة السورية بحكوماتها الدستورية. وأن يكون على رأسها الأمير فيصل ملكاً. ورفضت أن يكون لأية دولة أجنبية يد في حكم ودخل في انتداب , ولا سيما الحكم الفرنسي". أما على ناحية المسيحيين, فقد قام الفرنسيون بحملة من خلال رجال الدين على اللجنة يتهمونها بأن لها مقاصد دينيّة بروتستانتيّة, مع وجود تأييد لدى الموارنة بالإنضمام الى دولة لبنان الكبير, حيث استقبل أهالي عين أبل الجنرال غورو في نفس فترة نشاط اللجنة وأقاموا له احتفالا افتتح بنشيد المارسيلياز وتحيّة للعلم الفرنسي بحسب جريدة البشير. أما ما نقل عن موقف الكاثوليك والأرثوذكس, فلم يكن مثل موقف الموارنة, حيث سجّلت حادثة فيما بعد عندما فاتح إبراهيم عازار نائب جزين زميله نصار غلمية نائب مرجعيون بموضوع ضم مسيحيي مرجعيون في منطقة انتخابية واحدة مع مسيحي جزين, فردّ عليه غلميّة بالقول "أجدادي قالوا لأجدادك: التركي ولا بكركي. وأنا أقول لك باسم مسيحيي قرى منطقة مرجعيون: رب ثلاثين ولا جزين".
منذ الوجود العثماني, تشكّلت العصابات على أنواعها في جبل عامل, منها من تألّف من الفراريّين في الجيش التركي أو البدو ومنها من كان من أبناء المنطقة. وقد أشارت الراهبة كلمنتين خياط, رئيسة دير راهبات القلبين الأقدسين في عين أبل عام 1920, في رسالة نشرتها مجلة الشرق, الى أن أعمال النهب والسلب خلال العهد العثماني كانت محصورة بالشيعة المجاورين لها حيث ذكرت "كانت عين أبل بموقعها قريبة من قرى المتاولة الشيعيين, معرّضة لمساوئهم", الى حين دخول الحلفاء, حيث انتهت هذه الأعمال بانتهاء الفرار بعد خروج الأتراك, ووجود سلطة مركزية قوية. الى جانب عصابات النهب, تشكّلت عصابات وطنيّة مناهضة للإحتلال وعصابات مسيحيّة موالية لفرنسا.
بعد اتفاق فيصل-كليمنصو وإعلان مقررات سان ريمو, تصاعدت أعمال العصابات بدعم من الحكومة العربية في دمشق, حيث كانت الأسلحة والذخيرة تصل من خلال ضباط ارتباط تابعين للحكومة العربية. أبرز العصابات:
- عصابة صادق الحمزة: أهم العصابات وأكبرها عددا وفعالية, زعيمها صادق الحمزة من قرية دبعال ينتمي الى آل علي الصغير, أي أنه من أقرباء كامل الأسعد, الا أنه نشأ في الفقر والتشرّد. بلغ عدد أفراد عصابته حوالي 150 عنصرا وغطّت عمليّاته كافة مناطق جبل عامل.
- عصابة أدهم خنجر: ينتمي رئيسها أدهم خنجر الى آل درويش الإقطاعيين (تضم هذه العائلة آل الفضل في النبطية) وهو خال آل عسيران. ضمّت عصابته العشرات من الرجال وميدان عملها منطقة الشقيف.
- عصابة محمود الأحمد بزّي: رئيسها من وجهاء بنت جبيل, وميدان عملها هناك أيضا. لم ينقل ذكر أي صدام لها مع الفرنسيين.
وغيرها مثل عصابة رشيد غصين في القنطرة وعصابة شبلي في طيرزبنا. ومن الأمثال على نشاط هذه العصابات ما نشرته جريدة البشير في 3 نيسان 1920 حيث "خرج عبد الغني الدح مع اثنين من الجندرمة إلى تبنين لتحصيل أموال الحكومة. فقابلهم صادق الحمزة وقبض على الخيل والمال والدفتر. فأخذ الخيل لنفسه, أما المال فعاد فوزّعه على كل من كان جمع منه, طبقاً لما هو مذكور في الدفتر. وتهدّد الأهلين بالويل إذا ما عادوا إلى دفع الدراهم للحكومة الفرنسية".
على المقلب الآخر, أوجدت فرنسا فرقا مسيحيّة مسلّحة, حجتها في ذلك تمكين أهالي المنطقة من حماية أنفسهم. تألفت هذه العصابات تحت رعاية حاكم صيدا المسيو شارينتيه, وعلى رأسها عيد الحوراني من قرية الكفور. ومن أمثلة الأعمال التي كانت تقوم بها هذه العصابات ما ذكرته مجلة العرفان "بينما كان الحاج حمادة جابر من النبطية ومعه رفقة, راجعين من سوق عديسه يوم أمس, وبينهم رجل من قرية عديسه مسلم شيعي, خرجت عليهم عصابة مسيحية مؤلفة من خمسة عشر رجلاً واعترضت طريقهم ... وذهبوا وهم يشتمون المتاولة وكامل بك".
أما عصابات السلب, والتي كان أفرادها من المسلمين الشيعة, فقد كانت تستهدف قرى المسيحيين في معظم الأحيان, فنشأت فكرة, عززتها السلطات الفرنسيّة, أن هذه العصابات وجدت بموافقة الحكومة العربية في سبيل القضاء على الوجود المسيحي. ومن أعمال هذه العصابات:
- "وجد رجال العصابة جمّالاً من قرية حدّاثا, وادي عاشور فاغتصبوه جمله ودراهمه. والتقوا بسعيد من القرية نفسها عند زيتون المطران بين بنت جبيل والطيرة فسلبوه دوابه المحمّلة حنطة."
- "دهم أشقياء عيتا فلاحاً من قرية دبل فأخذوا فدانه. وسلبوا واحداً من أهل عين إبل ذاهب لحراثة أرضه ماعزه وسلاحه ودراهمه وزاده."
- "نزل الأشقياء بقرية جويا, فنهبوا ما نهبوا وقتلوا عرفان الحسيني ومحمد علي الكريدي."
الفصل الثاني
كانت الأيام التي سبقت المؤتمر حبلى بالتوتر. فقد دخل الفرنسيون البلاد ومعهم مشروع سياسي واضح يقضي بتقسيم سوريا الكبرى إلى كيانات طائفية, ومن ضمنها فصل جبل عامل ودمجه بدولة لبنان الكبير, وهو ما أثار رفضًا واسعًا لدى الفئات الشعبية والعلماء وقطاعات من الزعامة التقليدية.
ترافق هذا التوجه الاستعماري مع تحركات ميدانية متسارعة. في القرى والمناطق الجنوبية, كانت التحركات الفرنسية العسكرية تتكثف, والمفوضون الفرنسيون يرسلون المبعوثين ويعقدون الاجتماعات ويطلقون الوعود, بينما تنشط بعض الشخصيات المحلية في صياغة العرائض المؤيدة للانتداب, وجمع التواقيع التي تطلب من فرنسا الحماية. في الوقت نفسه, كان الصراع الإقطاعي الداخلي يزداد حدّة (بين آل الأسعد والخليل وعسيران والزين والصلح والفضل), خصوصًا بعد أن بدأ كامل بك الأسعد يسعى إلى تثبيت سلطته في وجه منافسيه, من خلال الطلب حينا والتهديد حينا للمخاتير للتوقيع على العرائض المؤيدة للإنتداب (ذكر الحاج محمد وهبة مختار عيناتا أن كامل الأسعد أقسم على قتله لأنه لم يبلغ أهالي قريته بأمر العرائض) وراح بعض المتنفذين يتخذون مواقف متذبذبة بين الانضمام إلى فيصل في دمشق أو التقرّب من الفرنسيين. إضافة الى ذلك, فأن فيصل لم يحدد منهجا سياسيا واضحا, فقد كان يتقلّب في بورصة الوعود والمقابلات, وفي بعض الأحيان يتخذ في نفس الفترة خطين سياسيين متعارضين, مثل ما ذكر عنه عند رجوعه من أوروبا عام 1919 حيث "خطب في بيروت خطبةً رضي عنها الفرنساويون. ولما جاء الى دمشق خطب خطبةً تخالفها إجمالاً وتُرضي المنادين بالاستقلال التام الناجز".
كانت العصابات الوطنية قد بدأت تأخذ طابعًا أكثر تنظيمًا. فمع ازدياد الضغط الفرنسي, بدأ العمل المقاوم يتخذ منحًى سياسيًا. لم تعد العصابات مجرّد جماعات خارجة عن القانون, بل ظهرت منها مجموعات حملت مشروعًا وطنيًا واضحًا, رافضًا للانتداب, ومتبنيًا لفكرة الدولة السورية الواحدة. تطورت قدراتها, وازداد تأثيرها, لا بفعل السلاح وحده, بل بفعل دعم جماهيري واسع, كان يرى فيها تعبيرًا عن إرادة الرفض.
وبالرغم من جهد السلطات الفرنسيّة في تزيين انتصاراتها على الثوار, الى أن وقائع الخسائر التي تكبدها الفرنسيون ظهرت في بيان رسمي نشر في بيروت, حيث بلغت خسائرها 70 قتيلا و17 أسيرا و17 رشاشا ومدفعين جبليين. هذه القدرة العسكرية لدى الثوار سمحت لهم بتحقيق سيطرة كاملة على منطقة جبل عامل, حيث يقول الشيخ أحمد رضا "الأخبار الطارئة من جنوبي جبل عامل, أن الثائرين قد ملكوا ناصية المنطقة, وأن الحكومة لم يبق لها أدنى أثر ولا سلطة, حتى أن مأموري الضرائب والدرك لا يقدرون على التجوال فيها وهي أشبه بحالة العصيان التام". لكن الإمكانات المحدودة لدى العصابات وعدم قدرتها على إدارة الشؤون المحليّة أفسح المجال أمام الفوضى, حيث لم تتوانى بعض العصابات, مثل عصابة محمود الأحمد بزي عن القيام بأعمال لا تمت لحركة الثورة بصلة, مثل الحادثة التي رواها فياض حسن طالب من قرية كفرا "بينما كنت أسير مع محمود بزي بجوار قرية دبل المسيحية قال لي: سأعينك وكيلاً على دبل, فقلت مازحاً: بتمون, دبل ملك بيّك, عندها قال لي إذن سأعطيك ثماني ليرات ذهبية بدلاً من خمس في الشهر". إضافة الى ذلك, فقد كان الجيش الفرنسي يعتمد النهب من القرى وتحميلها نفقات وجوده فيها "بلغنا أن العسكر الفرنسي سلب ثمانية أزواج بقر من كفركلا, وحرقوا ثلاثة بيوت للأهالي, وأخذوا دجاجاً كثيراً من دير ميماس ومن قرية الخربة" وكذلك اعتماد سياسة العقاب الجماعي "حمّلت قرية الميريه مائة ليرة لأن دركياً قتل في أرضها. والمقتول قال قبل وفاته أن أهل القرية بريئون من دمه, لأنه عرف قاتله بعينه وهو أدهم خنجر".
إن تتبع الحوادث في الفترة التي تسبق مباشرة مؤتمر وادي الحجير يدل على أن العلاقات بين كامل بك الأسعد والعصابات كانت على شفير الانفجار. خاصة بعد توارد أخبار تقول إن كامل بك يساعد الفرنسيين ضد رجال العصابات. ومن ذلك ما نقله الشيخ أحمد رضا عن معركة بين العسكر الفرنسي وبين عصابة صادق والبدو, تكبد فيها الفريق الأول, حسبما قدّر بعض أهالي الجديدة, مائتي قتيل. وقد اختلفت آراء الناس في هذه الحملة وأسبابها, وفي تدخل كامل بك في أسبابها. فقيل أنه تعهد للفرنسيين بمطاردة العصابات وحفظ الأمن, وأنه استنجد بالعسكر الفرنسي لمّا هاجمت عصابة صادق الحمزة قرية جويّا لمطاردة المهاجمين, وإن العسكر هبّ على أثر استنجاده هذا.
وقد حدّث الشيخ علي زريق بأن طعّان الخليل, وهو من وجهاء عديسة ومن المقربين جداً من كامل بك الأسعد, قال له إن فيصلاً قال لكامل بك وجوب عدم مقاومة جبل عامل للفرنسيين. وهذا الحديث, والكلام هنا للشيخ علي, أكّده الشيخ محمد رضا الشيبي من علماء النجف. ذلك التوتر في العلاقات بين الطرفين هو الذي دفع كامل بك إلى عقد اجتماعات مع المتنفذين, بدافع الحدّ من اتساع سيطرة العصابات على جبل عامل. ففي 14 نيسان 1920 عقد اجتماع في هوار منطقة مرجعيون, بين كامل بك الأسعد والأعيان من جهة, والمسيو شارنتيه من جهة أخرى, أسفر عن تعيين حرس وطني, من المتطوّعة مائتان, يعطى كل واحد منهم عشر ليرات راتباً شهرياً, بقيادة قائد فرنسي. ويعيّن لهم مراكز في البلاد لحفظ الأمن. وفي اجتماع موسّع آخر للمتنفذين في جبل عامل, ضم بكوات وأفندية الخيام وآل الأمين وآل فرحات وأعيان بنت جبيل وبعض العلماء, طرح كامل بك فكرة إنشاء الحرس, فعارض فيها أحد العلماء وهو الشيخ موسى قبلان معارضة شديدة, وهكذا طويت الفكرة.
في ظل هذا المشهد المتأزم, جاءت المبادرة إلى عقد مؤتمر سياسي جامع في وادي الحجير. وكان ذلك تجاوبًا مع ضغط شعبي, كما كان استجابة لطلب من عشائر المنطقة الشرقية من جبل عامل, برئاسة المير محمود الفاعور, تحديد موقف واضح. لم يكن المؤتمر فقط وليد لحظة, بل حصيلة تراكم من القلق والتوتر, ومن الصراع بين من يريد الحفاظ على مكتسباته عبر مهادنة الاحتلال, وبين من يرى أن وحدة سوريا واستقلالها تمثل المخرج الوحيد من مصير التفتت والضياع.
وهكذا, ظهرت الحاجة إلى موقف عاملي موحّد, يُعبّر عن إرادة الجماعة لا عن رغبة الزعامات, يُعيد ترتيب الأولويات ويقطع الطريق على محاولات التشتيت. لم يكن مؤتمر وادي الحجير وليد رفاهية, بل نتاجًا حتميًا لمعادلة سياسية لم يعد بالإمكان تجاهلها. ومع اقتراب لحظة الانعقاد, كانت البلاد تقف على شفير تحوّل حاسم, سيكون لهذا المؤتمر الكلمة الأولى فيه.
الفصل الثالث
بعد كل ما تراكم من توترات سياسية وضغوط اجتماعية واقتصادية, لم يعد بالإمكان البقاء في حالة الانتظار, فكان لا بد من اتخاذ موقف واضح, يتجاوز المهادنة والتردّد. اختير وادي الحجير مكانًا لانعقاد المؤتمر, نظرًا لموقعه الجغرافي المتوسط بين قرى جبل عامل, ولرمزيته كفضاء طبيعي يوفّر شيئًا من الحماية والخصوصية. فهنا, في حضن الطبيعة, اجتمع العلماء والأعيان, لا ليكرّسوا زعامةً ما, بل ليعلنوا موقفًا سياسيًا جامعًا.
ضمّ المؤتمر من علماء الدين:
- السيد عبد الحسين شرف الدين
- السيد عبد الحسين نور الدين
- السيد عبد الحسين محمود
- الشيخ حسين مغنية
- السيد جواد مرتضى
- الشيخ موسى قبلان
- الشيخ يوسف الفقيه
- الشيخ عز الدين عز الدين
- الشيخ حسين سليمان
الوجهاء:
- كامل بك الأسعد
- عبد اللطيف بك الأسعد
- محمد بك التامر
- محمود بك الفضل
- محمد بك الفضل
- الحاج إسماعيل يحي الخطيب
- الحاج عبد الحسين بزّي
- عبد الحميد بزّي
- الحاج خليل عبد الله
- سعد الدين فرحات
- محمد أسعد أبو خليل
- توفيق حلاوه
- محمود مراد
- الحاج محمد وهبه
- الشيخ عبد الله عز الدين
- حسن مهنّا
الأدباء:
- الشيخ أحمد رضا
- الشيخ سليمان ظاهر
- الشيخ عبد الحسين ظاهر
- محمد جابر آل صفا
- محمد علي الحوماني
قادة العصابات:
- صادق الحمزة
- أدهم بك خنجر
- محمود الأحمد بزّي
ترأس المؤتمر كامل بك الأسعد, افتتح المؤتمر السيد عبد الحسين شرف الدين, مستهلاً حديثه عن حادثة وقعت في صور في 18 نيسان, أي قبل انعقاد المؤتمر بستة أيام, بين متطوعة من العسكر اللبنانيين وأهل مدينة صور كادت أن تؤدي إلى كارثة كبرى, لأن الأمر تطور واتخذ صبغة طائفية بين المسلمين والمسيحيين, حتى إن المتطوعة المسيحيين لم يتحاشوا القذف في حق النبي. وفي كلمته, دعا إلى الوحدة السورية, ورفض الانتداب الفرنسي, مؤكدًا أن أبناء جبل عامل لا يرضون بالانفصال عن الشام, ولا يقبلون أن يُفرض عليهم نظام غريب تحت ذريعة الحماية أو التمدين. خرج المؤتمر بعدة مقررات أساسية, كان أبرزها إرسال وفد إلى دمشق للتأكيد على الانتماء للدولة العربية, ورفض أي مشروع انفصالي فرنسي, فضلًا عن توصيات داخلية تتعلق بإعادة ضبط الأمن المحلي, وتنظيم العلاقة بين القوى الشعبية والمجتمع.
الواقع أن الحديث عن خلافات بين المؤتمرين له من الشواهد ما يثبته, وهو استمرار لما تكلمنا عنه سابقا, ومن الأمثلة ما ذكره روشنا فاعور من معروب ان صادق حمزة انتحى جانبا في وادي الحجير, ورفض ان يأتي الى كامل بك. فما كان من كامل بك الا ان أتي الى المكان الذي فيه صادق, وعندما لمحه هذا الأخير قادماً قال لرجاله "ان ابا زطام (قصد كامل بك) قادم, فإن امسكني فاقتلوه. وبعد وصول كامل بك قال لصادق مستنكرا: "ابن سعدى (يعني كامل بك) بيطلع لعند ابن خديجة (يعني صادق)". فما كان من صادق الا ان تقدم وسلّم عليه. وبعد تدخل العلماء بينهما أهدى كامل بك صادقاً سيفه وثمنه 200 ليرة عثملية, لأن هذا السيف "لا يليق بابن سعدى بل بابن خديجة".
الجو العام داخل المؤتمر كان محتقنًا بالعزم, إذ شعر الجميع بثقل اللحظة التاريخية, وبأن ما يُقرّر في هذا الوادي لن يكون مجرد بيان, بل سيكون بيان مصير. وبعد انتهاء الجلسات, توجّه وفد من المؤتمر إلى دمشق, حيث التقى الملك فيصل, وأكّد أمامه أن جبل عامل جزء لا يتجزأ من سوريا الكبرى, وأنه يقف إلى جانب الدولة العربية في وجه مشاريع التجزئة. ويذكر السيد محسن الأمين عن وقائع لقاء الوفد مع الملك فيصل ما يلي:
... فالتفتُّ إلى المليك وقلت: إنهم يحملون إلى جلالتك تفويضاً من الجبل, ويستنبئونك صحة ما اعتزموا عليه من الثورة في وجه الفرنسي المستعمر، فبماذا تشير عليهم؟ فقال ما فحواه: هل أعددتم للثورة من السلاح والخيل؟ والسلاح كما تعلمون عتاد ورجال, والعتاد يشتمل على المدافع والبنادق, ثم الرجال والخيل تحتاج إلى الطعام والعلف المنظم, فهل أقررتم هذا قبل أن تعلنوا ثورتكم؟ فأجبناه بأن ليس لدينا إلا العصا والمنساس. فضحك, ثم توجه إلينا بكليته وقال: إن أهل جبل عامل قوم ضعفاء, لا قبل لهم بالثورة, فليلتزموا السكون ... فلم نمتثل لرأيه, وثار الجبل فكانت العاقبة كما علمت, نكبة تقهقرت معها البلاد عشرين سنة إلى الوراء
ونقل السيد عبد الحسين شرف الدين أن فيصلا وعدهم بإمدادهم بالعتاد والأطباء إذا ما اشتدّ الأمر وأمكنت الفرص, وذكر في موضع لاحق "وكان فيصل وفياً بوعده, وجهّز إلى الجبل قوافل من العتاد والأطباء, ولكن الزعيم كامل الأسعد أرجع ذلك كله تعويلاً على الحلول السليمة وأخذا بالأناة والتساهل".
غير أن وقع المؤتمر لم يكن موحّدًا في جميع الأوساط. فقد استشعر بعض المسيحيين, وخاصة من الموارنة, أن هذا المؤتمر يعاكس توجّهاتهم التي باتت تميل إلى فكرة الدولة اللبنانية المنفصلة, حيث ذكرت جريدة البشير "في برهة 15 يوماً عقد المتاولة اجتماعاً حضره رؤساء دينهم وزعيمهم كامل بك الأسعد. فتشاءمنا من هذا الاجتماع وحسبنا له ألف حساب, وسألنا ما المقصود منه؟ فكان الجواب: إن غايته راحة البلاد واستتباب الأمن" وفي موضع آخر أوردت الجريدة "إنما الحقيقة هي أن العصابات المتعددة اتفقت على أثر هذا المؤتمر على تقسيم القضاء فيما بينهم. فأصبح الأشقياء كلهم تحت زعامة اثنين هما صادق الحمزة من دبعال من أقرباء كامل بك الأسعد ومحمود أحمد بزي ابن أخي الحاج محمد سعيد أفندي بزي من بنت جبيل. تحالف الزعيمان على تدمير القرى المسيحية", وكان موقفهم هذا نتيجة سياسات فرنسية مدروسة غذّت العصبية الطائفية, وروّجت لفكرة أن الانتداب يحمي الأقليات. رغم أن الأحداث التاريخية تثبت غير ذلك, حيث أن موقف الشيعة في أحداث 1860 كان ما يلي:
وقف علي الأسعد مع سائر عشائر جبل عامل موقفاً شريفاً في الحرب الأهلية التي شبت بين الدروز والنصارى سنة 1860. فالتجأ كثيرون من منكوبي المسيحيين اللبنانيين إلى جبل عامل, حيث حلوا فيه ضيوفاً على الرحب والسعة. فحماهم الشيعيون وآووهم, ودافعوا عنهم دفاعاً مجيداً, لم يزل يذكره فضلاؤهم إلى اليوم. وحاول محمد بك الأسعد أن ينتصر للمسيحيين ويكبح جماح الدروز لما هاجموا جبع آخر بلاد الشيعة الشمالية, ونهبوا الأمانات والأموال التي كان قد أودعها المسيحيون النازحون في دار العلامة الشيخ عبد الله نعمة, فاهتز الجبل بأسره, وأسرع محمد بك على رأس ألف فارس إلى جبع لمهاجمة الدروز, غير أن سياسة الدولة التركية يومئذ قضت بإيقاف الهجوم, وحال دونه خورشيد باشا والي إيالة صيدا, فسوّى القضية وأعاد المنهوب
ورغم ذلك, ظل الجو الشعبي في جبل عامل يميل بوضوح نحو دعم مواقف المؤتمر, ورفض المشاريع الفرنسية, وهو ما سيُثبت لاحقًا في سلسلة من الأحداث الصدامية.
الفصل الرابع
لقد أحدث المؤتمر رجّة واضحة في موازين القوى, وأربك الفرنسيين, فكان لا بد من ردّ مباشر, فجاء ذلك من خلال حادثة عين إبل, تلك البلدة المارونية الواقعة في قلب جبل عامل, والتي تحوّلت إلى ساحة مواجهة مركّبة بين العصابات الوطنية والقوات الفرنسية, مدفوعة بتوتّر طائفي غذّته الرواية الرسمية الفرنسية وبعض الزعامات المتحالفة معها.
اندلعت المواجهة نتيجة عدة أسباب حيث انتشرت إشاعات عن هجوم محتمل يقوم به المسلمون الشيعة على القرى المسيحية. وبالمقابل انتشرت إشاعات في القرى الإسلامية تقول إن أهالي عين إبل يتهجمون على الدين الإسلامي ويهزأون بشعائره, مما أضفى على الموقف في المنطقة طابع الحذر والترقب ودفع بأهل عين إبل إلى طلب الحماية من فرنسا. فذهب وفدٌ منهم إلى صور حيث قابل القائد الفرنسي دي لاباستيير, فاعتذر القائد عن تلبية الطلب محتجّاً بأنه يخشى صادق الحمزة, ولا يستطيع أن يرسل جندياً واحداً لحماية عين إبل, وأنه هو نفسه ينام في البحر خوفاً من هجوم العصابات عليه, ولكنه قال للوفد: هذه مخازن السلاح, خذوا منها ما شئتم من البنادق والذخيرة ودافعوا عن قريتكم بأنفسكم. وذكر السيد أنطانس صقر, أنه مرّ على صور ليأخذ بندقية فأعطيت له مع ذخيرتها. وقيل له: "نريد رأس شيعي مقابل كل رصاصة " فسأل: "وكيف نحمل الرؤوس؟!" فأجابوا: "احملوا الآذان فقط". كذلك حدثت مراسلات بين صادق الحمزة وأهالي عين أبل اختلفت رواياتها, منها ما ذكر حصول اشتباك بينهم في شلعبون (منطقة بين بين جبيل وعين أبل).
بعد مؤتمر الحجير, عقد في قرية كونين في 5 أيار 1920 اجتماعا مسلحا ضمّ 200 شخص على أثر مقتل رجل شيعي من ياطر قبل 3 أيام, تقرّر فيه الهجوم على عين أبل. أنطلق الهجوم بعد ما أشيع عن هتك امرأة شيعية من حانين, بائعة لبن, في قرية عين أبل. لكن رواية أهالي عين أبل أن هذه المرأة, واسمها "الخضرا" كانت تبيع اللبن في بلدتهم, وأثناء عودتها الى قريتها, عرّجت على كرم تابع لعين أبل بقصد سرقة اللوز, فأوقفها نواطير القرية, وأخذوا غطاء رأسها كما كانت العادة المتبعة في القرى, فذهبت الخضرا الى قريتها وصوّرت الأمر بنحو مضخّم جدا. شارك في الهجوم أكثر من 300 شخص قدموا من القرى المحيطة بقيادة محمود الأحمد بزّي ومعه محمود جابر بزّي, أمين محمود مرعي وعبد الحميد أيوب من بنت جبيل, علي السيد محمد جعفر والسيد طاهر السيد علي من يارون, حسن مهنا من كونين, علي طعّان علوية من مارون, نجيب خنافر من عيناتا, محمود حسن مراد من عيترون. استطاع المهاجمون دخول عين إبل بعد ساعات من بدء الهجوم, حيث ارتكبت فظائع ومجازر كثيرة, من قتل الشّيوخ والعجزة والأطفال ويقال إن عدد القتلى قارب المائة. وبعد المجزرة بدأت أعمال السلب والنهب, حيث لم يبق من عين إبل سوى الأحجار المحروقة والمبعثرة.
في 18 أيار 1920, سيّرت فرنسا الى جبل عامل حملة انتقاميّة عددها 4000 جندي عدى المتطوّعة, بقيادة الكولونيل نيجر, ولم تلقى هذه الحملة سوى مقاومة محدودة في وادي الحريق قرب تبنين, نتيجة ضخامة الحملة وعدم وجود إمداد (بعد إرجاع كامل الأسعد للإمدادات القادمة من دمشق تعويلا على الحلول السلميّة) والأمر الذي أصدره كامل الأسعد للقرى بعدم مقاومة الحملة. ويروي أحد المتطوّعين أحداث الحملة كما يلي:
سافرنا من النبطية نهار الخميس 18 أيار سنة 1920. فكانت طريقنا على الزواتر, ومنها إلى الجوهرية, ومنها إلى القعقعية، ومن بعد قطعنا الجسر وطلعنا إلى فرون. فكان وصولنا إليها الظهر فحططنا فيها, فما وجدنا من سكانها أحد, فنهبناها. وبعد برهة طرق سامعنا طلق من الرصاص, فتفرق الجند، وهجمنا نحن المتطوعين قدام الجيش على العدو. وأطلقنا عليهم الرصاص حتى أوصلناهم إلى الغندورية, فكانت ساعة مهولة وقد اشتعل فيها النار حتى أرفقنا عليهم وخلص منهم الخرطوش, حتى وصلنا ضيعة تكنّى بأرزون فما وجدنا بها أحد فنهبناها ثم حرقناها, ولما طلع الصباح أخذنا بالمسير. أقبلنا على مساواة مجدل سلم وتولين, فصوبنا المدافع عليها وهدمنا منها عمارة محمد بك التامر. ثم أقبلنا على تل تبنين, وإلا أنصب علينا الرصاص مثل زخ المطر, فانتشر الجيش وهجمنا على العدو, واشتغل الرصاص حتى أرفقنا عليهم, فقتلنا منهم ثلاثة, وأربعة مجاريح. ثم نزلنا اليهودية فسلّمت وعند الصباح سافرنا على عيناتا, فما وجدنا أحد فنهبناها وأكلنا دجاجها ودبّينا فيها الحريق, فردمناها ثم طلعنا على بنت جبيل فما وجدنا فيها أحد, فكسّرنا فيها يومين, ما أقبل علينا أحد, فنهبناها وحرقناها, ومن بعد صوبنا عليها المدافع فهدمناها وفي اليوم الثالث طلعنا على مارون وحرقناها, وأمسينا بتل قبال بلد اسمها فاره, فصوبنا المدافع عليها وضربناها, فكنا نرى العالم تنغل مثل النمل, واشتغل عليهم المترليوز فقتل منهم كثير وجملة مجاريح
في الخامس من حزيران 1920, وفي اجتماع عقده الكولونيل نيجر قائد الحملة الفرنسية مع أعيان جبل عامل, أوجب نيجر على العامليين أن يتحملوا أثقال التعويضات عن الخسائر التي ولدتها هذه الحوادث المحزنة. وبعد ذلك قرأ على الحضور شروط الجنرال غورو, وهي تنص على التعهّد بجمع السلاح, وحماية المسيحيين, وإرجاع ما لم يتلف من المنهوبات. ثم التعويض وقدره مائة وخمسون ألف جنيه ذهباً, تستعمل للتعويض عن الذين نكبوا أو سلبوا. وهذه الغرامة توزع على القرى بمعرفة المتصرف والقائممقاميين, بنحو يناسب ثروتها ومبلغ اشتراكها في الحوادث. هذه الغرامة التي فرضتها سلطات الاحتلال الفرنسية تفوق طاقة جبل عامل بكثير في الأحوال العادية, فكيف بها والجبل قد تعرض للنهب والسلب. ثم أنها لم تقف عند حدود المائة وخمسون ألف ذهبا دفعتها البلاد من دمها وأملاكها, بل ذكر أمين الريحاني أن ما جمع كان أربعمئة وخمسة وثمانون ألف جنيه ذهبا كان الزائد من نصيب السماسرة والحكومة.
أورد خير الدين الزركلي بأن المجلس العسكري التابع للفرقة الثامنة من الجيش الفرنسي في الشرق قرّر في 19 آب أن الأشخاص الاتية أسماؤهم مجرمون بالاتفاق والتحريض, لكونهم عملوا الدسائس والتفاهم مع أعداء الحكومة الفرنسية لتسهيل مقاصدهم. ولذلك حكم عليهم غيابياً بالإعدام ومصادرة أملاكهم. ويعتبر هذا الحكم نافذاً الإجراء منذ 10 أغسطس 1920. وذكر لائحة بأسماء المحكومين وهم: صادق الحمزة, محمود أحمد بزّي, رياض محمد حسن فرحات, عبد المجيد محمد بزي, محمود فرح سليمان طرفة, الشيخ عبد الله عز الدين, الحاج فياض شرارة, محمد سويدان, أدهم خنجر, محمود قاسم, عبد الحسين سرور, نمر بلوز, محمد تامر. لكن جريدة لسان الحال تعدد بالإضافة الى المذكورين: موسى بوزكلي, علي حرب, سيد يوسف تامر, يعقوب قرواني, حسين علي مدا من الريحان, محمود محمد قاسم بركات من البازورية, رشيد غصين من القنطرة, طعّان الخليل وأخواه رشيد وحسن وسليمان طباجة ومحمد حمدان من العديسة, شكيب ولطفي ونجيب عبد الله من الخيام, محمد عرب وكميل اليوسف والحاج محمود من الخالصة, عزوز مصطفى من الدورة, كامل شحرور من هونين. حكم على جميع هؤلاء بالإعدام وضبط الأملاك, كما وحكم على التالية أسماؤهم بالنفي المؤبد وضبط الأملاك: كامل بك الأسعد, عبد الحسين بزّي, السيد عبد الحسين شرف الدين, مارد الغلمي, حسين نصرالله سعد, الحاج جواد والحاج خليل من الخيام, عائلة فرحات من برعشيت.
انتهت الحملة الفرنسية مؤقتًا, لكنها تركت أثرًا عميقًا في نفوس الناس, وأعادت رسم المشهد العام في جبل عامل. فمع مرور الوقت, بدأت تتضح نتائج مؤتمر الحجير, سواء بشكل مباشر أو من خلال ردود الفعل الفرنسية عليه. فعلى الصعيد السياسي, تمّ ضم جبل عامل إلى دولة لبنان الكبير, على خلاف رغبة معظم سكانه. وهكذا وجد أبناء المنطقة أنفسهم في كيان سياسي جديد, غُيّبت فيه إرادتهم, وحُرموا من حقوقهم السياسية, وسط شعور عام بالخذلان, لا سيما مع تصاعد الخطر الصهيوني في فلسطين, حيث ظهرت مساعي من الحركة الصهيونية لضمّ جبل عامل من خلال البريطانيين عبر محاولة اقناع الفرنسيين بالتخلّي عن هذا الجزء, لكن المحادثات لم تثمر عن شيء.
أما اقتصاديًا, فقد زادت الضرائب, وتدهورت الزراعة, وانهارت العملة الورقية, مما أدى إلى اتساع دائرة الفقر والهجرة, وتفاقم الاختلال في توزيع الثروة مع ازدياد تملّك الإقطاعيين إثر إقرار قانون العلاقات الزراعية. وعلى الصعيد الاجتماعي, رسّخت الأحداث قبضة المتنفذين, وتراجعت المبادرات الشعبية, في ظل تراجع دور العصابات الوطنية, وتفكك وحدتها. وأمام هذا الواقع الجديد, بدأ الفلاحون الصغار يدفعون الثمن, وانفتحت البلاد على موجة هجرة واسعة نحو الخارج, والتي اضطرّت القنصليات المعتمدة في لبنان الى وضع قيود على السفر الى بلادها, فيما ازداد تغوّل الإقطاع وتحالفه مع السلطة المنتدبة.
خلاصة الأمر, أن مؤتمر وادي الحجير شكّل لحظة وعي سياسي عميق, لكنه لم يكن كافيًا لتغيير مسار الأحداث. فقد اصطدم بإرادة استعمارية مسنودة بالسلاح, وبواقع داخلي ممزق بالصراعات والانقسامات. ومع ذلك, بقي هذا المؤتمر علامة فارقة في تاريخ جبل عامل, ورمزًا لمحاولة جادة في بناء موقف وطني موحّد في وجه مشاريع الاحتلال والتفتيت.

تعليقات
إرسال تعليق