رأي - من رعيّة الحاكم إلى رعاية الله
تمرّ الشعوب، كما الأفراد، بدورات من التجارب والاختبارات. أحيانًا تقودها هذه التجارب إلى التقدّم، وأحيانًا إلى التراجع والانهدام. غير أنّ التراكم، في كلا الحالتين، يُنتج وعيًا جمعيًا جديدًا، ويدفع الجماعات إلى البحث عن مسارات أكثر نجاحًا وديمومة، حتى لو تخلل ذلك الكثير من الإخفاقات. هذه الفكرة نجد جذورها في نظرية الدورات الحضارية عند ابن خلدون، أو في رؤية أرنولد توينبي الذي اعتبر أنّ التحديات الحضارية تستفزّ المجتمعات إمّا للاستجابة الخلّاقة أو للانهيار. لكن الاستجابة الخلّاقة تفترض وجود بيئة تسمح بالتجريب، أي مجالًا عامًا مفتوحًا لتداول الأفكار، نقدها، اختبارها، والتكيف معها بحسب خصوصيات كل مجتمع.
المجال العام، كما طوّره يورغن هابرماس، يشكّل شرطًا أساسيًا للتطور الحضاري. ففيه تتواجه التيارات الفكرية والسياسية، ويُختبر ما يصلح للبقاء وما يسقط أمام النقد. وهو بطبيعته ساحة للتعددية، حيث تتنافس قوى ومصالح مختلفة في إنتاج رؤية مشتركة للمستقبل. غير أن ما حدث في العالم العربي منذ انهيار السلطنة العثمانية، يكشف أن هذا المجال لم يُمنح فرصة الاستمرار، بل أُقفل تباعًا بفعل الانقلابات العسكرية، وترسيخ الملكيات والمشيخات، وصعود الإسلام السياسي، فدخلنا في حالة من الجمود الحضاري الممتد حتى اليوم.
عقب تفكّك السلطنة العثمانية، شهدت المنطقة انفتاحًا على أفكار متعددة: اليسارية، القومية، الوطنية، والإسلامية وغيرها. بدا وكأنّها لحظة ولادة جديدة لعصر عربي حديث. هذه المرحلة يمكن فهمها ضمن إطار "التحوّل البنيوي" الذي يرافق انهيار الإمبراطوريات وصعود الدول القومية. كما انسجمت مع توقعات نظرية التحديث التي افترضت أن المجتمعات الخارجة من الاستعمار ستدخل مسارًا تدريجيًا نحو الديمقراطية والتنمية.
لكن هذه الوعود لم تكتمل. ما سُمّي بالثورات التحررية سرعان ما تحوّل إلى أنظمة عسكرية سلطوية. انقلاب "الضباط الأحرار" في مصر شكّل باكورة هذه الخيبة، تلاه انقلابات مشابهة في سوريا والعراق وليبيا. رفعت هذه الأنظمة شعارات ثورية، لكنها في الجوهر عملت على قمع أي محاولة لإعادة فتح المجال العام. صارت الدولة، وفقًا لمنطق السلطوية الذي حلّله هنتنغتون، أداة لإعادة تأديب المجتمع وزرع الخوف في نفوس العامة، فيما احتُكر تعريف الوطنية بما يخدم بقاء السلطة.
في السياق نفسه، ترسّخت الملكيات والمشيخات، وأعادت صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن بوصفها علاقة "رعاية" لا "حقوق". هنا نجد مثالًا على ما يسميه بيير بورديو إعادة إنتاج السلطة، حيث يجري تشكيل وعي الأفراد بطريقة تجعلهم يتقبّلون السلطة باعتبارها مصدر العطاء والشرعية، لا باعتبارها عقدًا اجتماعيًا يضمن حقوقهم الأساسية.
لم يقتصر إقفال المجال العام على الأنظمة العسكرية والملكية، بل تعزز أيضًا مع صعود الإسلام السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي. فبدل أن يشكل الإسلام السياسي مدخلًا لإعادة فتح النقاش العام، حوّله إلى مجال مغلق بدوره، قائم على "رعاية الله" عبر من ينصّبون أنفسهم وكلاء عنه على الأرض. المعارضة، في هذا السياق، لم تعد مجرّد خيانة للوطن كما في النماذج العسكرية، بل صارت حربًا للّه ورسوله.
فكما أوضح غرامشي من خلال مفهوم "الهيمنة الثقافية", فالتيار الإسلامي استحوذ على الرموز والمعاني الدينية لإعادة إنتاج سلطته، جاعلًا أي معارضة له خروجًا عن الجماعة المؤمنة. كما يمكن فهمها في ضوء مقولات ميشيل فوكو عن السلطة والمعرفة: فالإسلام السياسي لم يكتفِ بالسيطرة على السلطة السياسية، بل احتكر أيضًا تعريف الحقيقة الدينية، فصار امتلاك "المعرفة الشرعية" معادلًا لامتلاك السلطة.
نتيجة عقود من إقفال المجال العام، تحوّلت المجتمعات العربية إلى ساحات انفجار. ما شهدناه في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر هو النتيجة الحتمية لعجز الناس عن اختبار الأفكار، الفشل فيها، ثم المحاولة مجددًا في مسار طويل نحو التعلّم. عوضًا عن ذلك، فرضت السلطات مناهج تفكير وأيديولوجيات مستوردة، سواء من الخارج أو من الماضي.
هذا الانسداد ولّد ما يسميه يوهان غالتونغ "العنف البنيوي", حيث لا يُمارس العنف فقط بالسلاح، بل أيضًا بحرمان المجتمعات من التطور والتعبير عن ذاتها. وعندما انهارت شرعية هذه الأنظمة تحت ضغط الفشل الاقتصادي والسياسي، انفجرت الأوضاع في شكل حروب أهلية وصراعات دموية، مما جعل كثيرًا من الدول تُصنّف ضمن خانة الدولة الفاشلة.
إنّ معظم ما نعيشه اليوم من ضعف، إجرام، اقتتال واستباحة، هو نتيجة مباشرة لعقود الاستبداد والشمولية التي مارسها القذافي والأسد وصدام وغيرهم. لقد سحق هؤلاء أحلام وأفكار الملايين، وأقفلوا أي أفق للتجريب والاختلاف. الخروج من هذا المأزق ليس أمرًا سريعًا، بل مسار طويل قد يمتد لعشرات السنين. إن التحول نحو الإنفتاح والحوار ليس لحظة واحدة، بل عملية تفاوضية معقدة بين النخب والمجتمع، تتطلب بناء مؤسسات قادرة على حماية التعددية. كما أن العدالة الانتقالية تشكّل مدخلًا ضروريًا لإعادة بناء الثقة، عبر آليات المصالحة، المحاسبة، وحفظ الذاكرة الجماعية.
لكن الأهم يبقى في إعادة فتح المجال العام ليكون ساحة حقيقية لتجريب الأفكار، لا ساحة لاحتكارها. فالتشافي من لوثة الاستبداد يتطلب تغييرًا طويل الأمد في وعي الأفراد، بحيث يعود المواطنون ليتعاملوا مع الدولة باعتبارها عقدًا اجتماعيًا لا منحة من الحاكم، ومع السياسة باعتبارها مجالًا للاجتهاد البشري لا امتدادًا لسلطة مطلقة، دينية كانت أم دنيوية.
الجمود الحضاري في العالم العربي ليس نتيجة طبيعة المجتمعات كما يدّعي البعض، بل نتيجة إقفال المجال العام لعقود طويلة، وحرمان الشعوب من حقها في التجريب والتعلم. لقد فشلت الأنظمة العسكرية والملكية والإسلامية، كل بطريقتها، في منح شعوبها فرصة استجابة خلاقة للتحديات التاريخية. إعادة فتح هذا المجال، على أسس حوارية وتعددية، هو الطريق الوحيد للخروج من الدوامة الحالية. لكن هذا الطريق طويل وشاق، ويتطلب سنوات وأجيال من العمل الدؤوب على التحرر من الاستبداد وإعادة بناء الوعي الجمعي.

تعليقات
إرسال تعليق