بحث - مفقود الأثر: الجسد الغائب، الكوزمولوجيا الإسلامية، وسياسات الفقد لدى الشيعة في لبنان





مقدمة

بعد الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، تم تصنيف عدد من الشهداء ضمن فئة "مفقود الأثر"، أي الشهداء الذين لم يُعثر على جثمانهم. تعيش هذه الشخصيات المفقودة في مساحة بين الظهور والنسيان، والحضور الروحي والغياب الطقسي. في التراث الإسلامي، تنطوي الشهادة على مكافأة إلهية وتأكيد حسّي من خلال الدفن (الجنازة) والذاكرة. ولكن عندما يكون الجسد مفقودًا، كيف تُثبّت الشهادة طقوسيّا، وكيف تحزن العائلات دون وجود خاتمة؟

تستكشف هذه الورقة البحثية كيف تتعامل العائلات الشيعية في جنوب لبنان مع هذا الشكل من الخسارة غير المُحلولة من خلال الكوزمولوجيا الإسلامية، والتكيّف الطقسي، والذاكرة اليومية. استنادًا إلى المقابلات والملاحظات الشخصية، تدرس الورقة كيف يتشكل الحزن عندما يكون الشهيد غائبًا جسدًا ولكنه راسخ في الذاكرة.

يتساءل البحث: هل يمكن للمعارف الإسلامية المحيطة بالفقد أن توفر ليس فقط الراحة الروحية، بل أيضًا أدوات مفاهيمية لتحمّل الحزن المُبهم؟ كما يتناول البحث كيفية ترتبط حالة "مفقود الأثر" بتجارب الاختفاء العالمية، مثل حالات الاختفاء القسري في أمريكا اللاتينية.

بتتبع هذه الأصداء المحلية والعابرة للحدود، تبحث الدراسة في مدى قدرة الأطر الإسلامية للفقد على أن تكون جسرًا مفاهيميًا يربط الحزن الشخصي بأنماط أوسع من الغياب والذاكرة والمقاومة، مع تسليط الضوء على حياة أولئك الذين يضطرون إلى الحزن على أعزاءهم الذين لا قبور لهم.



الإطار النظري

أبستمولوجيا وكوزمولوجيا الفقد في الإسلام

في الفكر الإسلامي، لا ينفصل مفهوم الفقد عن الوجود الإلهي والغاية الإلهية. ويكمن في صميم هذا الفكر مفهوم الشهادة - وهي المكانة الممنوحة لمن يموت في سبيل الله. وتشتق الشهادة لغويًا من الجذر "شَهَدَ", فالشهيد هو من يشهد على الحق بتضحيته بنفسه. ويوضح القرآن هذا بوضوح في سورة التوبة:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ

تُصوّر هذه المعاملة الإلهية الشهادةَ كسمو روحي - سُموٌّ يكسر أفقيّة الحياة والموت بوعد الحضورٍ المُكرّمٍ اللحظي في الجنة. وقد توسّع المفسّرون القدماء والمعاصرون في هذه الفكرة، مُؤكّدين على التحوّل الوجودي الذي يُحدثه الاستشهاد: فالشهيد ليس ميتًا بالمعنى التقليدي، بل هو حيّ عند الله، حتى لو لم يُدركه العالم.

في التراث الشيعي، يتكثّف هذا المفهوم ويُؤرّخ. يُصبح مقتل الإمام الحسين وعائلته في كربلاء اللحظةَ النموذجية للشهادة - فعل ظلمٍ بيّن يُواجَه بمقاومةٍ مؤمنة. إنه ليس مجرد ركنٍ أساسيٍّ عقائدي، بل هو أيضًا ذكرى حيّة، تُمارس طقوسها سنويًا في إحياء ذكرى عاشوراء. تزخر الأدبيات الدينية الشيعية بأدعيةٍ تُناشد هذا النوع من الموت. وكما ورد في بحار الأنوار، يقول أحد هذه الأدعية:

فَإِذَا كانَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ الْمَوْتُ فَاجْعَلْ مَنِيّتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك بِيدِ شِرَارِ خَلْقِك مَعَ أَحَبِّ خَلْقِك إِلَيك مِنَ الْأُمَنَاءِ الْمَرْزُوقِينَ عِنْدَك يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين

يُجسّد هذه الدعاء كلاً من التطلع إلى الشهادة وأهميتها الجماعية والعقائدية: فالموت في سبيل الله ليس مجرد خروج من هذه الدنيا، بل هو دخول في حرم القدسيّة تقرّباً من الله والصالحين.

كما تخضع الشهادة لإعادة صياغة سياسية هامة في كتابات شخصيات مثل سيد قطب، الذي يُعيد تفسيره المؤثر "في ظلال القرآن" تصور الشهادة كثمن ضروري لإقامة نظام الله على الأرض. رؤية قطب ليست سلبية؛ فهو ينظر إلى الشهادة كنضال فعال ومستمر من أجل الحقيقة, فيقول:

إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق, شهداء في سبيل الله ... هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس

وفي نفس السياق, يواجه النظرة الماديّة للحياة والموت بقوله:

إنهم قتلوا في ظاهر الأمر وحسبما ترى العين, ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة, إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد, وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع, وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة ... فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها, وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.

إن فكرة الشهادة، باعتبارها استمرارية غيبيّة, هي فكرة وثيقة الصلة بالشهداء مفقودي الأثر. وبينما نادرًا ما تتناول النصوص الإسلامية الكلاسيكية مثل هذه الحالات مباشرةً، فإن منطق الشهادة - القائم على الحضور الإلهي والثواب الأبدي - يمتد إليهم. فإذا كان الشهيد "حيًا" في الغيب، فإن غياب الجسد لا يُضعف الشهادة، بل يُعمّق غموضها الروحي.

ورغم عدم تدوينها رسميًا، فإن النظريات الإسلامية للشهادة - التي تُشدد على الثواب، والموت الظاهري، والذكرى - تتكيف مع الاختفاء الجسدي. إنها تخلق مساحة يتعايش فيها الأمل والحزن دون دليل مادي، مُقدمةً بذلك تفسيرا لغياب مُستمرّ دون عودة.

أنثروبولوجيا الشهادة والعقيدة السياسية

الشهادة في الإسلام الشيعي نموذج مقدّس وقوّة سياسيّة. وقد أُعيد صياغتها في لبنان الحديث على يد الإمام موسى الصدر، الذي حشد المجتمع الشيعي حول قوة التضحية والفداء. في سبعينيات القرن الماضي، صاغ الشهادة كطريقٍ للكرامة والمقاومة، واضعًا الأساس الأيديولوجي لتبني حزب الله لها لاحقًا.

أضفى حزب الله، الذي تأسس في ثمانينيات القرن الماضي، طابعًا مؤسسيًا على الشهادة من خلال الجنازات العامة والإعلام والأيقونات. لم تقتصر هذه المظاهر على تكريم الشهداء فحسب، بل عززت أيضًا الالتزام بالمقاومة. يجمع الفكر السياسي للحركة بين التقديس العقائدي والأداء العاطفي، مُستنهضًا مشاعر الحزن والفخر للحفاظ على التضامن المجتمعي. وكما لاحظ علماء الأنثروبولوجيا، تُصبح الجنازات مواقع تتحول فيها الخسارة الشخصية إلى إلهام جماعي. تلعب عائلة الشهيد، وخاصةً الأم، دورًا رئيسيًا في سرد ​​قصة التضحية وتأكيدها.

الاستشهاد، أكثر من كونه مجرد شعار، هو دعوة للعمل، يُراد منه إلهام نضال مستمر. كل شهادة تُمهد الطريق للشهادة التالية. بهذا المعنى، تُعيد رواية حزب الله الاستشهاد إلى الحياة، معتمدةً على النقل العاطفي للحفاظ على صفوفها.

لكن بالنسبة لـ "مفقود الأثر" يتلاشى هذا المنطق. فغياب الجثمان يُعلّق طقوس الدفن ويُعطّل مسار السرد المتوقع. عائلاتٌ عالقة في حالة من الغموض: رمزية محورية، لكنها محرومة من خاتمة طقوسية. ومع ذلك، غالبًا ما يُؤكد المجتمع على الاستشهاد رغم الفراغ الجسدي، مُستبدلًا اليقين بالإيمان.

يكشف هذا التوتر عن الاستشهاد كعمليّة تفاوضيّة، تُشكّلها العقيدة والسياسة والرؤية. تكشف حالة "مفقود الأثر" عن حدود هذا النظام، ولكن أيضًا عن مرونته. حتى بدون جثمان، يبقى الإيمان بالاستشهاد، ووظيفته السياسية، قائمًا.

نظائر عابرة للحدود لـ "الفقد المبهم"

قد تندرج ظاهرة "مفقود الأثر" ضمن نمط عالمي أوسع من الفقد والاختفاء المبهمين. فبينما تُقدّم الكوزمولوجيا الإسلامية تفسيرات روحية للشهادة، إلا أنها غالبًا ما تُغفل التحديات العاطفية والطقوسية للحزن دون جسد. وهنا، تُقدّم نظرية بولين بوس "الفقد المُبهم" إطارًا مُفيدًا. تُعرّف هذه النظرية بأنها فقدان "دون خاتمة"، وتنطبق مُباشرةً على حالات مثل "مفقود الأثر"، حيث يُعيق غياب الجسد طقوس الحداد كالدفن وزيارة القبر. ووفقًا لبوس، فإن هذا النوع من الفقد "يُجمّد عملية الحزن"، مما يمنع الحل واستخلاص المعنى.

في العائلات المُؤيدة لحزب الله، يُؤكّد المعتقد الديني مكانة الشهيد، لكنّ الخاتمة العاطفية غالبًا ما تكون غامضة. وهذا يُنشئ مُفارقة: الشهيد "حاضر" روحيًا ولكنه غائب ماديًا. تُساعد نظرية "الفقد المُبهم" في تفسير التوتر بين اليقين الديني وعدم اليقين النفسي. عالميًا، يتردد صدى هذه الحالة في تاريخ أمريكا اللاتينية من الاختفاء القسري، حيث استخدمت الأنظمة الغياب الجسدي لقمع الحداد والمعارضة. في أماكن مثل الأرجنتين وتشيلي، حوّلت العائلات الحزن إلى نشاط سياسي، مطالبةً بالعدالة للمفقودين. وحاليا في المكسيك، تُجري الأمهات الباحثات (madres buscadoras) أعمال بحث شعبية في مواجهة تقاعس الدولة، محولات الخسارة الغامضة إلى شكل من أشكال المقاومة.

في حين أن "مفقود الأثر" يتشابه عاطفيًا مع هذه الحالات، إلا أنه يختلف سياسيًا. في لبنان، ينتمي المفقودون إلى نظام يُبجّل تضحياتهم - مما يخلق حالة يُدار فيها الحزن من خلال الولاء، لا المقاومة. ومع ذلك، فإن التكلفة العاطفية متشابهة. يجب على العائلات أن تتغلب على الصمت والغياب من خلال طقوس مستحدثة، وتفسيرات للعقيدة، ودعم المجتمع.

إن وضع "مفقود الأثر" في هذا الإطار المقارن يكشف عن إمكانات بناء الجسور وحدود الكوزمولوجيا الإسلامية. ورغم أنها تقدم معنى غيبيا عميقا، فإنها لا تمحو آلام إختفاء الجسد، مما يسلط الضوء على التفاصيل المعقّدة عبر الثقافات للفقد المبهم.



المنهجيّة

يعتمد هذا البحث على منهج نوعي إثنوغرافي قائم على الملاحظة الشخصية ومقابلة مع امرأة شيعية من جنوب لبنان، سناء (إسم مستعار) عاشت تجربة فقدان الأثر خلال حرب حزب الله وإسرائيل عام ٢٠٢٤. بصفتها متأثرة أولى وفاعلة إجتماعيا، قدمت رؤىً وتأملات شخصية حول طقوس العائلات لحالات الفقد هذه وإعادة تفسير الاستشهاد في مواجهة الاختفاء الجسدي.

أُجريت المقابلة في سياق ثقافي مشترك، مما أتاح حوارًا مفتوحًا حول الحزن والإيمان والذاكرة. وقد سلَّطت الضوء على كيفية تعامل المجتمعات مع الفقد المبهم من خلال مزج العقائد مع ممارسات الحداد المستحدثة.

بالإضافة إلى المقابلة، أستمدُّ من ملاحظاتي الشخصية أثناء عودتي إلى جنوب لبنان بعد الحرب. بصفتي فردًا من المجتمع المتضرر، شهدتُ الأبعاد العاطفية والطقوسية للفقد بشكل مباشر. وقد شكّلت تجاربي - فقدان الأصدقاء والأقارب، وحضور طقوس غير رسمية، والإصغاء للصمت بقدر الإصغاء للكلام - المنظور الذي تناولتُ من خلاله هذا البحث. هذه ليست رواية من مراقب، بل هي استقصاءٌ واقعيٌّ، مُستنيرٌ بقربٍ عاطفيٍّ ومسؤوليةٍ أخلاقية. تعاملتُ مع المشاركين لا كمصادر معلومات، بل كشهودٍ على حزنٍ مشترك. ونظرًا للثقل الديني والعاطفي للاستشهاد، أعطيتُ الأولويةَ للانضباط والاحترام للحدث، وتجنّبتُ تصويرَ المجتمعِ على أنه مُتضررٌ أو متلقّي. بل على قدرة أبناء هذا المجتمع على إعادةِ تفسيرِ التقاليدِ كشكلٍ من أشكالِ الشفاء.

تهدفُ هذه الدراسةُ إلى المُساهمةِ في النقاشاتِ الأكاديميةِ حولَ الاستشهادِ والفقدِ المُبهم، مع احترامِ كرامةِ المجتمعِ الذي تُمثّلُه وقوتِه الروحية.



قصص من الميدان

الصدمة والصبر والمقارنة المقدسة

تصف سناء، صديقة زوجة شهيد مفقود الأثر، الثقل العاطفي لاختفائه. علمت باستشهاده لأول مرة من خلال صورة على فايسبوك قبل تأكيد كونه مفقود الأثر. تتذكر قائلةً: "عندما زرتهم لأول مرة، لم يكونوا يعلمون بعد". بعد أيام من البحث، أدركت العائلة اختفاء جثمانه، مما أدى إلى ما تسميه سناء "صدمة ثانية" من بعد الصدمة الأول, الشهادة.

ومع ذلك، لم يكن رد فعل العائلة يائسًا، بل كان ملتزما. "ربطوا الموقف مباشرةً بفاطمة الزهراء"، التي يُضفي قبرها المجهول في التراث الشيعي معنى روحيًا. وتضيف سناء: "كان يُحبها كثيرًا، لذا كانت له خاتمة مشابهة". لم يُصبح غياب الجثمان قطيعة، بل علامة على صلة أعمق بأهل البيت.

الطقوس خلال النزوح

كان لغياب الجثمان عواقب واضحة: لا دفن، لا قبر، لا جنازة تقليدية. وزاد النزوح من وطأة الخسارة. لم تتمكن العائلة، القادمة من قرية حدودية، من العودة بسبب القيود الإسرائيلية. في ملاذهم المؤقت، أقاموا مراسم عزاء دون دفن. ورغم أنهم خططوا لبناء قبر رمزي عند عودتهم، إلا أنهم تخلوا عن الفكرة لاحقًا، واختاروا بدلاً من ذلك زيارة مكان استشهاده.

يعكس هذا التحول نمطًا أوسع: في غياب الجثمان، يصبح المجال المكاني مقدسًا. ويحل آخر موقع معروف للوفاة محل القبر. وتتحول طقوس الجنازة إلى حزن غير ملموس من خلال الحضور والكلام. وكما أشارت سناء، كان الناس يأتون "للتعزية، ولكن دون إجراءات دفن".

بين الشهادة والإنتظار

كانت لحظة مؤثرة للغاية عندما قارنت سناء الشهيد مفقود الأثر بأخيه، الذي استشهد لاحقًا ودُفن بمراسم كاملة. وقالت: "أصبح الأمر أصعب بكثير على عائلته، لأنه لم يتم العثور على جثمانه". زاد التباين من ألم الغياب: فعندما يُدفن أحدهم ولا يُدفن الآخر، يتعمق الحزن. يزداد الشعور بغيابهم شدةً مع مرور الوقت، خاصةً في ظلّ العزاء المكتمل الأركان الذي يحصل عليه الآخرون.

ومع ذلك، يُعيد هذا الغياب صياغة معنى الشهادة. توضح سناء: "ننظر إليهم على أنهم في مستوى أعلى من الشهداء الآخرين". بالنسبة للمجتمع، لا يُمحى فقدان الأثر، بل يُضخّم، وتزداد قوته الرمزية وتأثيره العاطفي.

الدعم المؤسسي والديني

أشارت سناء أيضًا إلى دور مؤسسة الشهيد التابعة لحزب الله في مساعدة العائلات على التأقلم. فقد أُرسل متخصصون لتوجيه المكلومين، وخاصة الأطفال، خلال هذه المرحلة غير الاعتيادية من الحداد. وتقول: "كانوا يتابعون العائلة بدقة بالغة، وبشكل أكثر كثافة من غيرهم من الشهداء، لأن الشهيد مفقود الأثر". في غياب الجثمان، لم يتمكن الأطفال من أداء مراسم الوداع التقليدية. يبرز تدخل المؤسسة إدراكًا بأن السرديات الروحية وحدها لا تكفي، بل إن الدعم النفسي والاجتماعي ضروري أيضًا للتثبيت والاستقرار في مواجهة الفقد المبهم.

الظهور، ووسائل التواصل الاجتماعي، والفئة الصامتة

عادةً ما يكون الاستشهاد في ثقافة المقاومة في لبنان, والإسلامية خصوصا, علنيًا، حيث تُخلّده الملصقات ووسائل الإعلام والاحتفالات. لكن حالة مفقود الأثر تُظهر تفاوتًا في الظهور. توضح سناء أنه بينما يُكرّم الشهداء مفقودي الأثر في دوائر ضيقة من خلال الصور والقصائد ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي، "لم يكن هناك عرضٌ كبيرٌ لهذه القضية" في وسائل الإعلام الرئيسية. ورغم تأثيرهم العاطفي العميق، لا يُميّزون رسميًا عن غيرهم من الشهداء. تكشف هذه الفجوة عن توترٍ بين ذكرى المجتمع والاعتراف المؤسسي. فغياب القبور يحدّ من إحياء الذكرى العامة، ويحوّل الذاكرة إلى أرشيفات خاصة - ملاحظات صوتية، وأحلام، وقصص شفوية - بدلًا من الفعاليات التذكارية الرسمية. تُظهّر خسارتهم روحيًا، لكنها تبقى غير ظاهرة بوضوح رسميًا.

النماذج المقدسة والتحوّل الإيماني

تُظهر تأملات سناء كيف يُمكن للشهيد المفقود الأثر أن يُعمّق الالتزام الروحي. لم يكن الشهيد المفقود الذي عرفته "خميني" مُجرّد مُقاتل، بل كان طالبًا حوزيًا، عُرف بانضباطه وإيمانه. ازدادت شهرته بعد وفاته. قالت سناء: "لقد أثبت جدارته في كل مناسبة"، مُشيرةً إلى أن حتى من لم يعرفوه أُعجبوا به بعد وفاته.

بالنسبة لها وللآخرين، أصبح استشهاده قدوة. "لم يتزعزع إيماننا، بل ازداد قوة". بدلًا من أن يُضعف الفقد الإيمان، ألهم التأمل في الإرادة الإلهية والاستعداد الروحي. بالاستماع إلى تسجيلاته الصوتية عن الله والإمام المهدي والعرفان، وجد الكثيرون الهداية والوضوح في غيابه. قالت: "لقد أحدث تغييرًا في كل من عرفه، حتى من لم يعرفه". هذا يُشير إلى ديناميكية أوسع: يُصبح الشهيد الغائب قدوة أخلاقية محسوسة. لا يُصبح الحداد مجرد ذكرى، بل وسيلة للتكوين الروحي.

الحزن المبني على الإيمان وحدود المقارنة

عندما سُئلت سناء عمّا إذا كان "مفقود الأثر" يُحاكي حالات اختفاء عالمية مثل حالات الاختفاء في أمريكا اللاتينية، كانت واضحة: "لا أعتقد أن هناك أي تشابه". وتمحورت حجتها حول الإيمان. وقالت إنه بينما يحتجّ الآخرون أو ينشدون العدالة، "نحن نُعطي الأولوية للاستسلام لله والقبول بقضائه وقدره".

هذا التباين أساسي. ففي الثقافة الإسلامية الشيعية، تُقدّس المعاناة - كجزء من سردية إلهية تتجاوز المنطق القانوني أو الجنائي. ويُعدّ تحمّل الخسارة بالتسليم والصبر فعلًا دينيًا. وبدلاً من البحث عن دليل أو اعتراف، يتبنى المجتمع عقيدةً يتعايش فيها الحزن والأمل في إطار سرّ إلهي. ترفض سناء التأطيرات الحداثية كالصدمة أو حقوق الإنسان، مُصرّةً على قواعد دينية مُتميزة للحداد.

مشاريع الذاكرة، وسياسات الحداد غير المكتمل

لعلّ أكثر ما هو مؤثر في المقابلة هو سرد سناء لمشروع كتاب كانت تعمل عليه مع شقيق الشهيد، "تواب"، لنشر سيرة ذاتية للشهيد المفقود الأثر "خميني". كان المشروع يهدف إلى جمع سيرته الذاتية، وأشعاره، وتسجيلاته الصوتية، وتعاليمه - شهادةً على القوة التحويلية التي كان يتمتع بها حتى في اختفائه. لكن هذا الفعل من الذاكرة انقطع: فقد أصبح تواب أيضًا شهيدًا. هذا الوضع ترك المشروع غير مكتمل، لكن غايته بالغة الأهمية. فهو يكشف كيف يصبح عمل الذاكرة شكلاً من أشكال المقاومة - ضد النسيان، ضد المحو، ضد فكرة أن الغياب يعني الاختفاء. لا تقتصر سناء ومجتمعها على رثاء مفقود الأثر فحسب؛ بل يواصلون سرده ودراسته وحفظ آثاره، معتبرين صمته حضورًا ناطقًا.



التحليل النظري

تكشف حالة الشهيد مفقود الأثر، كما روتها سناء، عن تركيبة فريدة من الحزن، مستمدة في آن واحد من الكوزمولوجيا الإسلامية والفقه السياسي الشيعي، والممارسات المجتمعية للصمود الروحي. يكمن في صميم هذه الرواية مفارقة الحضور في الغياب - الاعتقاد بأنه حتى بعد رحيل الجسد، يبقى الشهيد حيًا روحيًا وفاعلًا في الجماعة. يدمج هذا القسم المادة الإثنوغرافية مع الأدبيات التي تمت مراجعتها، ليُثبت أن النظريات المعرفية الإسلامية لا تستوعب فقط تمزق الاختفاء الجسدي، بل تُعيد صياغته في تجربة ذات معنى كوني.

الاستشهاد كاستمرارية وجودية

تُشكل الفرضية اللاهوتية القائلة بأن الشهداء ليسوا أمواتًا بل أحياء (آل عمران 169) أساسًا كبيرًا لكيفية تعامل المجتمعات مع اختفاء الجسد. إن غيبة الشهيد، بدلًا من أن تُنكر قدسيته، تُعززها. يتماشى هذا بشكل وثيق مع رؤية سيد قطب للاستشهاد كتحول ميتافيزيقي - الانتقال من الرؤية الدنيوية إلى الفعالية الإلهية. في حالة مفقود الأثر، لا يُنظر إلى غياب الخاتمة الماديّة الملموسة (الجنازة والدفن) على أنه فشل، بل باعتباره انغماسًا أعمق في الغيب، في عالم من الحقيقة الروحية يتحدى التأكيد المادي.

يدعم هذا المنطق الكوني تأكيد سناء بأن الشهداء مفقودي الأثر "أعلى مرتبة" من غيرهم. إن غياب الجسد، بدلًا من أن يقلل من مكانتهم، يرفعها - مما يدعو إلى شكل أعمق وأكثر تأملًا من التذكر متجذر في الحياة ما بعد الموت والتوق الى نيل القرب الالهي. يوضح هذا كيف تُعيد الأطر الإسلامية وضع الاختفاء الجسدي كرؤية روحية، مقدمةً جسرًا وجوديًا وعاطفيًا عبر الفقد.

الفقه السياسي الشيعي والأداء الطقوسي

يعتمد الفقه السياسي لحزب الله، الموروث من الإمام موسى الصدر والمُصقل من خلال الممارسة المؤسسية، على الشهادة كمثال مقدس وآلية تجنيد. في هذا النظام، كما نوقش سابقًا، تلعب عائلة الشهيد - وخاصةً الأم - دورًا حاسمًا في تحويل الحزن الشخصي إلى إلهام جماعي. ومع ذلك، في حالة "مفقود الأثر"، ينقطع هذا المسار الأدائي: لا جسد يُدفن، ولا نعش يُحمل، ولا قبر يُزار.

ومع ذلك، ما يبرز مكانه ليس الصمت، بل الابتكار: تصبح الأفعال الرمزية، والطقوس المُستبدلة، وإنتاج السرديات وسائل لتأكيد الشهادة. عائلات مثل تلك التي تصفها سناء لا تقاوم سردية حزب الله؛ بل تُكيّفها وتُوسّعها. على سبيل المثال، تُمثل السيرة الذاتية المُقترحة للشهيد مفقود الأثر خميني وزيارات العائلة لموقع استشهاده أشكالًا جديدة من التقديس تتجذر حيث تستحيل الطقوس التقليدية. تُكثّف مؤسسة الشهيد التابعة لحزب الله مشاركتها، مُقدّمةً استشاراتٍ نفسيةً في حالات الحزن، مُدركةً الضغط النفسي المُرتبط بالفقد المُبهم، مُحافظةً في الوقت نفسه على شرعية بنيتها الأيديولوجية.

جسر نحو تجارب عالمية للفقد؟

يُطرح سؤالٌ محوريٌّ في هذه الورقة البحثية، وهو ما إذا كانت النظريات الإسلامية للفقد قادرةً على التجسير، من الناحية النظرية، بين التجارب العالمية للحزن المُعلّق، مثل حالات الاختفاء القسري في أمريكا اللاتينية. ينطوي كلاهما على فقدانٍ مُبهم، كما عرّفته بولين بوس - وهي حالةٌ يستحيل فيها إغلاقُها بسبب عدم اليقين بشأن الموت أو الاختفاء. في كلا السياقين، تُعاني العائلات من فقدانٍ دون جثمان، وتعيش في حالةٍ من عدم اليقين، وتُؤكّد وجودَ عزيزٍ غائبٍ ماديًا.

إلا أن رفض سناء الواضح لهذه المُقارنة يكشف عن حدود هذه المُقارنات. فبالنسبة لها، يتجذّر فقدان الأثر في الإيمان والتسليم والحياة ما بعد الموت. تقول: "نحن نُعطي الأولوية لتسليم أنفسنا لله". المعاناة، من هذا المنظور، ليست مجرد جرح اجتماعي، بل تحمل معنىً إلهيًا. هذا التمييز مهم. فبينما تهيمن الصدمة وحقوق الإنسان على الخطابات العالمية حول الفقد، تُقدم الكوزمولوجيا الإسلامية لغةً للحزن تتمحور حول الصبر والقدر والقيامة. ولا تختلف حالة "مفقود الأثر" عن الأطر العلمانية فحسب، بل إنها تتحدى فكرة وجوب حل الحزن أصلًا.

الحداد كتكوين أخلاقي

يشير تأثير الشهيد مفقود الأثر على الروحانية الفردية، كما يتجلى في رواية سناء، إلى أن الحداد ليس مجرد رد فعل، بل هو فعل تكويني. إن الاستماع إلى تسجيلات صوت الشهيد، واستحضار تعاليمه، والسعي إلى السير في مسار عرفانه، ليست أفعال حنين إلى الماضي، بل ممارسات أخلاقية. إنها تحوّل الجسد الغائب إلى نموذج حيّ للتقوى، وتخلق ذكرى ليست مجرد تخيليّة، بل توجيهية. وبهذه الطريقة، يصبح الحداد مجالًا للنضج الأخلاقي، تصوغه العقيدة، ويدعمه الخيال الجماعي.



خاتمة

تكشف قضية "مفقود الأثر"، كما تُرى من خلال شهادة سناء وسياقها اللاهوتي والسياسي، عن عمق النظريات الكونية الإسلامية في مواجهة الخسارة المُعلّقة. ففي هذا التراث، لا تُعدّ الشهادة مجرد موت بطولي، بل هي سُموٌّ ميتافيزيقي. فغياب الجسد، وإن كان مُربكًا عاطفيًا، غالبًا ما يُضخّم الحضور الروحي للشهيد. تُفسّر العائلات هذه الخسارة من خلال التاريخ المُقدّس - مُستلهمين فاطمة الزهراء أو الإمام الحسين - وتُحوّل الحداد إلى طقوس للصمود والإيمان والاقتداء.

تُبيّن هذه الدراسة أن النظريات المعرفية الشيعية للخسارة - الشهادة، القيامة، القرب الإلهي - لا تعتمد على الدليل الجسدي أو الخاتمة المادية. بل تُقدّم بدلًا من ذلك قواعدَ للصبر والغياب والإيمان، قادرة على تحويل الغموض إلى معنىً مُقدّس. ردًا على السؤال المحوري للبحث: يمكن للأطر الإسلامية أن تكون جسرًا مفاهيميًا لتجارب الاختفاء العالمية، مقدمةً نماذج للحداد دون حل ومقاومة المحو من خلال الطقوس والمعتقدات. ومع ذلك، فهي متجذرة في رؤى عقائدية شاملة لا تتوافق بسهولة مع المفاهيم الدنيوية للعدالة أو الصدمة. وكما أكدت سناء، فإن المعنى ينبع من الإرادة الإلهية - لا من اليقين القانوني.

في نهاية المطاف، يكشف "مفقود الأثر" عن حدود تعميم الحزن وقوة الكوزمولوجيا المحلية في توليد الذاكرة والقدرة على التحمل والاستمرارية الروحية. لا يمثل هؤلاء الشهداء المفقودون خسارة فحسب، بل مساهمة عميقة في كيفية فهمنا للحداد والإيمان والغيب.



المراجع

المجلسي, محمد باقر. بحار الأنوار. بيروت. دار إحياء التراث العربي 1983

قطب, سيد. في ظلال القرآن. القاهرة. دار الشروق

الطريحي, فخر الدين. مجمع البحرين. بيروت. مؤسسة التاريخ العربي 2007


Ibrahim, Fouad N. “Al-Shahada: A Centre of the Shiite System of Belief.” In Dying for Faith: Religiously Motivated Violence in the Contemporary World, edited by Madawi al-Rasheed and Marat Shterin, 37-48. London: I.B. Tauris, 2009

Paley, Dawn Marie. “Cold War, Neoliberal War, and Disappearance: Observations from Mexico.” Latin American Perspectives 48, 2021.

Boss, Pauline. Ambiguous Loss: Learning to Live with Unresolved Grief. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1999

Deeb L. Exhibiting the “Just-Lived Past”: Hizbullah’s Nationalist Narratives in Transnational Political Context. Comparative Studies in Society and History. 2008;50(2):369-399.

Norton, Augustus Richard. Hezbollah: A Short History, STU-Student edition. Princeton University Press, 2007.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رأي - حزب الله والتدمير الذاتي

ملخّص - مؤتمر وادي الحجير وآثاره - منذر محمود جابر

رأي - فليحكم الإخوان!