بحث - حوكمة عاشوراء: استكشاف الحاكمية في المجتمع الشيعي اللبناني تحت تأثير حزب الله


مقدمة
تشكل الطائفة الشيعية اللبنانية، المكونة في الغالب من المذهب الإثني عشري، حوالي 31% من سكان لبنان. يتركز هذا المجتمع في المقام الأول في سهل البقاع وجنوب لبنان والضواحي الجنوبية لبيروت. الشيعة الاثني عشرية هم أتباع الأئمة الاثني عشر، وتتأثر حياتهم الدينية والاجتماعية بشدة بمعتقدات وممارسات هذه الشخصيات.

حزب الله، وهو قوة محورية داخل الطائفة الشيعية اللبنانية، تأسس على يد بعض علماء الشيعة اللبنانيين وأتباع عقيدة ولاية الفقيه بمساعدة من مؤسسة حرس الثورة الإيرانية التي كانت متواجدة في لبنان خلال ثمانينيات القرن الماضي. أطلق حزب الله في البداية اسم الثورة الإسلامية في لبنان، ثم أعاد تسمية نفسه لاحقًا باسم المقاومة الإسلامية في لبنان. ظهرت المنظمة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وانخرطت في صراعات ضد الميليشيات المسيحية وميليشيا حركة أمل الشيعية. ظل حزب الله في موقف المعارضة للحكومات اللبنانية حتى عام 2005، وكان ولا زال متورطًا في نزاعات مستمرة مع الأطراف اللبنانية الأخرى، في المقام الأول حول مسألة احتفاظه بسلاحه، وهو ما يبرره بمواجهته لإسرائيل. وقد لعبت المنظمة الدور الحاسم في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في عام 2000. وعلى الرغم من معارضته المعلنة للنظام الطائفي في لبنان، فإن حزب الله منسوج بشكل معقد في هذا النظام.

تحمل عاشوراء أهمية عميقة في التقليد الشيعي، حيث تحيى ذكرى معركة كربلاء، أين استشهد الإمام الثالث لهم، الإمام الحسين، على يد الدولة الأموية. ويعتبر هذا الحدث السنوي، الذي يتم الاحتفال به من خلال طقوس وتفسيرات متنوعة عبر الثقافات المختلفة، حجر الزاوية في الهوية الشيعية. فهو يجسد عقيدة "المظلومية الشيعية" و"الثورة على الإستبداد"، المتأصلة بعمق في الأدب والفكر الشيعي. إن عاشوراء ليست مجرد احتفال ديني فحسب، بل هي أيضًا رمز قوي للمقاومة والصمود، ولتشكيل الديناميكيات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الشيعي.

تتعمق هذه الورقة في ديناميكيات الحكم داخل المجتمع الشيعي اللبناني، مع التركيز بشكل خاص على مراسم عاشوراء والحاكمية التي يمارسها حزب الله، الحزب السياسي الذي يمثل عقيدة ولاية الفقيه. ومن خلال فحص الأطر والإجراءات والتكتيكات المؤسسية لحزب الله، تهدف الدراسة إلى الكشف عن كيفية قيام الحزب بتوليد والحفاظ على خطاب يتم التلاعب به والسيطرة عليه فيما يتعلق بمناسبة عاشوراء. وبالاعتماد على مفهوم ميشيل فوكو للحاكمية، يجري البحث في كيفية ممارسة حزب الله للسلطة، وتنظيم السلوك، وتشكيل الذات خلال مراسم عاشوراء، وبالتالي التأثير على التفسيرات المجتمعية والسياسية للحدث. وفي نهاية المطاف، تساهم الدراسة في مناقشات أنثروبولوجية أوسع حول علاقات القوة، والسيطرة الاجتماعية، والفاعلية داخل المجتمعات ذات التوجه الديني في لبنان وخارجه.



الإطار النظري
إن مفهوم ميشيل فوكو للحاكمية يوسع الفهم التقليدي للحكم إلى ما هو أبعد من الهياكل السياسية للدولة ليشمل الطرق التي لا تعد ولا تحصى حيث يتم من خلالها توجيه وإدارة سلوك الأفراد والجماعات. تتضمن الحاكمية مجموعة من الممارسات والتقنيات والاستراتيجيات المستخدمة لتشكيل والتأثير على سلوك الأفراد وقراراتهم وأفكارهم. وهو يشمل الآليات التي يتم من خلالها ممارسة السلطة في جميع أنحاء المجتمع، وتمتد إلى المؤسسات والأعراف الاجتماعية والممارسات الثقافية.

يكشف استكشاف فوكو للحاكمية كيف تعمل السلطة ليس فقط من خلال القمع أو السيطرة العلنية ولكن من خلال أشكال أكثر دقة وانتشارًا من التنظيم والتطبيع. ويؤكد على أهمية السياسة الحيوية - حكم السكان من خلال مجموعة من السياسات والممارسات التي تهدف إلى إدارة الحياة والصحة والأجسام. وهذا الشكل من السلطة غالبا ما يكون لا مركزيا، وينطوي على شبكة من المؤسسات والممارسات التي تشكل مجتمعة سلوك الأفراد والجماعات.

في السياق الديني، يمكن أن تظهر الحاكمية من خلال الطرق التي تؤثر بها السلطات والمؤسسات الدينية على معتقدات وممارسات وهويات أتباعها. ويشمل ذلك استخدام الروايات والطقوس والرموز الدينية لتنظيم السلوك وغرس قيم وأعراف محددة.

في السياق السياسي، تتضمن الحاكمية الاستراتيجيات والتكتيكات التي تستخدمها الكيانات السياسية لتشكيل سلوك ومواقف المواطنين. ويمكن أن يشمل ذلك الدعاية والتعليم والمراقبة وتنظيم الخطاب العام. غالبًا ما تتشابك الحاكمية السياسية مع الحاكمية الدينية، خاصة في المجتمعات التي يلعب فيها الدين دورًا مركزيًا في الحياة العامة. وفي مثل هذه الحالات، يمكن للزعماء والمؤسسات الدينية أن يعملوا كوكلاء أقوياء للحاكم السياسي، مستفيدين من السلطة الدينية للتأثير على النتائج السياسية.

ويمارس حزب الله، باعتباره منظمة سياسية-دينية، تأثيرًا كبيرًا على سلوك ومعتقدات أتباعه، مستخدمًا الآليات الدينية والسياسية للحفاظ على سلطته. خلال عاشوراء، يستخدم حزب الله أطراً وإجراءات وتكتيكات مؤسسية مختلفة لتشكيل الخطاب المحيط بالحدث والسيطرة عليه. ويشمل ذلك تنظيم الاحتفالات، ونشر الروايات الدينية والسياسية، وتنظيم السلوك أثناء الشعائر. ومن خلال هذه الممارسات، يمارس حزب الله شكلاً من أشكال الحكم يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد السيطرة السياسية ليشمل تشكيل المعتقدات والهويات الدينية.

تتضمن دراسة الحاكمية في هذا السياق دراسة كيفية استخدام حزب الله لرمزية عاشوراء وطقوسها لغرس قيم ومعايير محددة، وتعزيز أهدافه الأيديولوجية والسياسية.



الهيكل والحوكمة
يعمل حزب الله كحزب سياسي وميليشيا، ويرتبط دوره السياسي بشكل معقد بقدراته العسكرية ويستفيد منها. على رأس هيكل حكم حزب الله يوجد مجلس الشورى، الذي يضم سبعة أعضاء. يشرف خمسة من هؤلاء الأعضاء على الوحدات المركزية – التنفيذية والقضائية والعسكرية والبرلمانية والسياسية – بينما يشغل المنصبان المتبقيان الأمين العام ونائب الأمين العام. تدير الوحدة التنفيذية، مجموعة واسعة من الوحدات، بما في ذلك الوحدة الثقافية، والموارد البشرية، ووحدة الإعلام وغيرها. وتلعب هذه الوحدات دوراً محورياً في التوسط في العلاقة بين حزب الله والطائفة الشيعية اللبنانية. فهي تسهل فرص العمل والتطوع في مختلف القطاعات، وتوفر المساعدات الاجتماعية والدعم المالي وخدمات الرعاية الصحية، وبالتالي تحقيق الاستقرار وممارسة السيطرة على المجتمع الشيعي، وتمتد إلى ما هو أبعد من مؤيدي حزب الله المباشرين.

إن علاقة حزب الله بالسكان منظمة للغاية، بدءاً من المستوى الشعبي مع المؤيدين الأفراد في الأحياء أو القرى، الذين يشرف عليهم (مسؤول الشعبة). ويقدم هؤلاء الرؤساء تقاريرهم إلى رئيسهم (مسؤول القطاع)، المسؤول عن قرى أو أحياء متعددة. وعلى المستوى الإقليمي يشرف (مسؤول الوحدة) على عدة قطاعات ويشارك في المؤتمر العام الذي ينتخب مجلس الشورى. تعمل الوحدة العسكرية بتسلسل هرمي موازٍ للهيكل المدني، ولكن بمسميات مختلفة. يختلف التنسيق بين الوحدات العسكرية والمدنية حسب القطاع، ويتأثر بالديناميكيات بين رؤساء القطاعات، ومع ذلك يتم الحفاظ عليه من خلال العمليات والمسؤوليات الداخلية التي تتطلب التعاون. يمكّن هذا الهيكل المزدوج حزب الله من دمج وظائفه العسكرية والمدنية بشكل فعال، مما يعزز حكمه ونفوذه داخل المجتمع الشيعي اللبناني.

وفقاً لعقيدة ولاية الفقيه، فإن التسلسل القيادي لحزب الله في جميع الإجراءات، بما في ذلك تلك المتعلقة بعاشوراء، يبدأ من المرشد الأعلى في إيران (الولي الفقيه). تتم إدارة توجيهات المرشد الأعلى من قبل الأمين العام لحزب الله في لبنان، الذي يشرف على التنفيذ من خلال وحدات متخصصة مختلفة. وتتولى الوحدة الثقافية ووحدة الإعلام بالتعاون مع المناطق المسؤولية الأولى عن إدارة مراسم عاشوراء. وتتعاون هذه الوحدات للتعامل مع جميع جوانب الاحتفالات، بدءًا من تحديد المسؤوليات وحتى تنظيم التغطية الإعلامية والإعلان.

وفي القرى والأحياء الصغيرة، يقوم علماء الدين بالتنسيق مع رؤساء القطاعات لتحضير وإجراء مراسم عاشوراء. وتبرز هذه المراسم بشكل بارز مجالس العزاء التي تروي أحداث كربلاء، مقسمة إلى عشرة أيام لتروي القصة بأكملها. في القرى والمدن الكبرى، غالبًا ما يلقي الممثلون السياسيون خطابات قبل مجالس العزاء، مما يضيف بعدًا سياسيًا للمراسم الدينية.

ويقام الحفل المركزي في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث يلقي الأمين العام كلمات على مدى عدة أيام، تركز في المقام الأول على أحداث كربلاء مع الحد الأدنى من الإشارة إلى الأوضاع السياسية الراهنة. ذروة مراسم عاشوراء تحدث في اليوم العاشر مع المسيرات الكبرى في المدن الرئيسية، ومسيرة مركزية في بيروت. وخلال هذه المسيرة، يلقي الأمين العام خطاباً سياسياً بحتاً يربط أحداث كربلاء بالقضايا المعاصرة، ويقدم وجهة نظر الحزب حول العام الماضي ويحدد الخطوط العريضة للتوجهات الاستراتيجية للعام المقبل.

ويضمن هذا الهيكل المتقن أن مراسم عاشوراء ليست مجرد احتفالات دينية، ولكنها أيضًا منصات للتعبير السياسي وتعبئة المجتمع. ومن خلال الجهود المنسقة التي تبذلها وحدات الثقافة والإعلام، إلى جانب علماء الدين المحليين والممثلين السياسيين، يدمج حزب الله بشكل فعال التفاني الديني مع الرسائل السياسية، مما يعزز نفوذه داخل المجتمع الشيعي اللبناني.



الإجراءات والتكتيكات
ويستخدم حزب الله نهجاً متعدد الأوجه للسيطرة على رواية عاشوراء، مستخدماً الاستراتيجيات الإعلامية والاتصالات العامة والمواد التعليمية لتأكيد هيمنته وشرعيته باعتباره الممثل الرئيسي للشيعة الاثني عشرية في لبنان، وهي جماعة تمثلها أيضاً حركة أمل. إحدى الأساليب التأسيسية التي يستخدمها حزب الله للتأثير على رواية عاشوراء هي من خلال تعليم ونشر علماء الدين. يتم إرسال الطلاب إلى إيران لإكمال دراساتهم الدينية، بحيث ينغمسون في عقيدة ولاية الفقيه. ويصبح هؤلاء الطلاب، عند عودتهم، شخصيات مؤثرة في قراهم ومدنهم، حيث يعملون كمتحدثين ومدرسين وأئمة وقادة اجتماعيين ينشرون إيديولوجية حزب الله وسياساته.

تلعب الوحدة الثقافية دوراً محورياً في تشكيل قصة عاشوراء من خلال إعلام وتثقيف وإملاء المعرفة والعقلية حول أهمية عاشوراء. ويتم تحقيق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من المواد التعليمية بما في ذلك ورش العمل والمجلات والكتب والأدلة التي يتم توزيعها على نطاق واسع. على سبيل المثال، في عام 2023، أصدرت مؤسسة نشر تابعة لحزب الله، مكتبة المعارف الإسلامية، كتابًا بعنوان "عاشوراء في فكر الإمام الخميني". وفي تعريف الكتاب ذُكر أنه يهدف إلى تزويد القرّاء بفهم شامل للنهضة الحسينية وأسبابها ونتائجها ودور الدعاة في ضوء فكر الإمام الخميني، بما يضمن انسجام خطاب عاشوراء مع الإطار الأيديولوجي لحزب الله.

تتولى وحدة الإعلام والتشكيلات المرتبطة بها مسؤولية إنتاج مواد متعددة الوسائط تدعم أحداث عاشوراء، بدءاً بالتصميم والشعار السنوي الذي يعكس السياق السياسي وسياسات حزب الله الأوسع. على سبيل المثال، في عام 2022، خلال الانتخابات البرلمانية اللبنانية، كان شعار عاشوراء هو "ونبقى مع الحسين"، وهو ما يتماشى مع شعار الحملة الانتخابية لحزب الله في الانتخابات البرلمانية لذلك العام "باقون نحمي ونبني". يعكس الاستخدام الدقيق لمصطلح "باقون" المصطلح الرئيسي "ونبقى" من شعار عاشوراء، الذي يرمز إلى الاستمرارية بين مُثُل الحسين وحزب الله. ويؤكد هذا الارتباط فكرة أن صراعات حزب الله وجهوده الحالية هي استمرار مباشر لمعركة كربلاء.

وكانت هذه الاستراتيجية واضحة أيضًا في عام 2013، عندما أعلن حزب الله مشاركته في الحرب الأهلية السورية. كان شعار عاشوراء في ذلك العام هو "هيهات منا الذلّة"، وهي عبارة مشهورة قالها الحسين في كربلاء، ترمز إلى رفض الاستسلام. أعيد استخدام هذا الشعار خلال الأزمة الاقتصادية في لبنان ابتداءً من عام 2019، مما أدى إلى تأطير موقف حزب الله باعتباره موقف مرونة ومقاومة ضد الهجمات المتصورة، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية. ومن خلال استحضار الرمزية التاريخية والدينية التي يتردد صداها بعمق لدى المجتمع الشيعي، يستخدم حزب الله عاشوراء بشكل فعال لتعزيز خطابه، وتأكيد موقفه السياسي، وحشد أنصاره.

ومن خلال هذه الاستراتيجيات التعليمية والإعلامية المصممة بعناية، لا يحافظ حزب الله على سيطرته على رواية عاشوراء فحسب، بل يعزز أيضًا موقعه داخل المجتمع الشيعي اللبناني، مما يضمن دمج رسائله الأيديولوجية والسياسية بسلاسة في الشعائر الدينية.



السيطرة الخطابية
تدور سيطرة حزب الله الخطابية عبر رواية عاشوراء حول تأطير المنظمة باستمرار كحركة ثورية ملتزمة بمقاومة الاحتلال والهيمنة من خلال الالتزام بالتعليمات والأفعال الأصيلة للأئمة الشيعة. وقد تم نسج هذا الموضوع المركزي بدقة في الخطب والإجراءات والاتصالات العامة لوحدات حزب الله وممثليه. ومن خلال المقارنة بين النضال التاريخي للحسين في كربلاء ومعارك حزب الله المعاصرة، فإن المنظمة تضع نفسها على أنها الوريث الشرعي لإرث الحسين المتمثل في المقاومة والعدالة. وكما ذكر الخميني “إن هدف مجالس العزاء الحسيني ليس فقط البكاء على سيد الشهداء والحصول على الأجر، وإن كان هذا الثواب موجودا فعلا، بل الهدف المهم هو الجانب السياسي الذي خطط له أئمتنا في الأيام الأولى من الثورة ليبقى الإسلام إلى النهاية."

ولتعزيز هذه الرواية، يقوم حزب الله بدمج الجمهور في طقوس عاشوراء وأفكاره، مما يؤدي إلى إطالة مدة الحدث وتضخيم تأثيره العاطفي والأيديولوجي. إن هذه المشاركة المطولة لا تعزز الروابط المجتمعية فحسب، بل تضمن أيضًا أن تظل مبادئ التضحية والمقاومة متجذرة بعمق في الوعي الجماعي للمجتمع الشيعي اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال هذه المراسم، يؤكد حزب الله على أدوار المستفيدين المحليين، مستفيدًا من ديناميكيات السلطة والتأثير الاجتماعي للأفراد والمنظمات التي تعمل تحت رايته.

ومن خلال تسليط الضوء على مساهمات وقيادة هذه الجهات الفاعلة المحلية، ينشر حزب الله سيطرته ويلعب دور القوة المتوازنة بين المجتمعات المحلية. وهذا النهج لا يعزز سلطته فحسب، بل يعزز أيضًا الشعور بالولاء والاعتماد بين أفراد المجتمع. ويؤدي المستفيدون المحليون، وهم في الغالب علماء دين وقادة اجتماعيون ورؤساء مختلف المنظمات التابعة لحزب الله، دوراً فعالاً في نشر رسالة الحزب وضمان الالتزام بتوجيهاته الأيديولوجية والسياسية. إن مشاركتهم في مراسم عاشوراء تعمل على إضفاء الشرعية على مكانتهم ونفوذهم، مما يؤدي إلى إنشاء شبكة من العاملين المخلصين الذين يعززون سيطرة حزب الله على المستوى الشعبي.

في جوهر الأمر، فإن تلاعب حزب الله برواية عاشوراء متعدد الأوجه. إنها تعزز صورته الثورية، وتغمر السكان بعمق في الطقوس، وتستخدم بشكل استراتيجي تأثير القادة المحليين للحفاظ على نظام اجتماعي متوازن وخاضع للرقابة. ومن خلال هذه الوسائل، يضمن حزب الله أن إحياء ذكرى عاشوراء لا تكون بمثابة ذكرى للأحداث التاريخية فحسب، بل أيضًا كأداة قوية للتعبئة السياسية والاجتماعية المعاصرة.



آليات القوة
يستخدم حزب الله مجموعة معقدة من الآليات لممارسة السلطة والسيطرة على مراسم عاشوراء، وذلك باستخدام أساليب المراقبة والانضباط والتنظيم للحفاظ على نفوذه. ومن خلال وحدته الثقافية، وبالتنسيق مع الموارد البشرية، يقوم حزب الله بتعيين علماء للإشراف على الاحتفالات في كل قرية وحي. يعمل هؤلاء العلماء بشكل وثيق مع مسؤولي الشعب المحليين، الذين يستخدمون العناصر، في المقام الأول أفراد التعبئة والمرحلة التحضيرية، لضمان التنفيذ السلس للمراسم. في المجالس المركزية، يلعب أفراد تحت عنوان (الإنضباط) دور قوات الأمن، حيث يقومون بتسهيل وحماية ومراقبة المنطقة وحدودها للحفاظ على النظام.

ولمزيد من السيطرة على السرد، يصدر حزب الله كتيبات لقراء العزاء، يفرض عليهم الالتزام بالمحتوى المحدد. تم تطبيق هذه الممارسة بعد أن أدت الحريات السابقة التي اتخذها الرواة إلى نشر روايات من مصادر غير موثوقة وأحداث خيالية، حيث سعى الرواة إلى تحقيق النجاح الشخصي. يتم تعويض الرواة الذين يتم اختيارهم للاحتفالات في كل قرية ماليًا ويستفيدون من الوضع الاجتماعي المتزايد، مما يضمن امتثالهم وولائهم.

ويلعب مسؤولو حزب الله، ولا سيما أمينه العام، دوراً حاسماً في رسم الخطة العامة لاحتفالات هذا العام. يتضمن ذلك تحديد الأهداف وتحديد الرسائل الرئيسية وتحديد الموضوعات التي يجب تجنبها. ويتم تنفيذ هذه الخطط من خلال الأوامر التنفيذية الصادرة عن مختلف الوحدات، بما يضمن التزام جميع المعنيين بالمبادئ التوجيهية المنصوص عليها. وأي انحراف عن هذه القواعد يمكن أن يؤدي إلى المساءلة والتحقيق، وربما إلى تداعيات أكثر جدية تؤثر على الأفراد اجتماعيا وماليا.

ومن خلال آليات المراقبة والانضباط والتنظيم هذه، لا يحتفظ حزب الله بسيطرة مشددة على رواية عاشوراء فحسب، بل يعزز أيضًا سلطته داخل المجتمع. ومن خلال تنظيم محتوى المراسم، وإدارة شؤون الأفراد، وضمان الالتزام الصارم بالتوجيهات، يستخدم حزب الله عاشوراء بشكل فعال كأداة للتعبئة السياسية والاجتماعية، وتعزيز نفوذه وسلطته داخل المجتمع الشيعي اللبناني.



تشكيل الذات
من خلال دمج إطاره الأيديولوجي في مراسم عاشوراء، يغرس حزب الله شعوراً بالهوية الجماعية التي تتمحور حول المقاومة والولاء لمبادئ ولاية الفقيه. وتضمن مشاركة العلماء والرؤساء المحليين والوحدات المتخصصة أن تكون تجربة المجتمع في عاشوراء متوافقة مع رواية حزب الله، مع التركيز على موضوعات التضحية والمقاومة. ومن خلال رواية القصص المنظمة والنشر الانتقائي للمعلومات، يشكل حزب الله تصور المجتمع للأحداث التاريخية، ويربطها مباشرة بالصراعات المعاصرة للمنظمة. تعزز هذه السيطرة السردية شعورًا قويًا بالانتماء والهدف بين أفراد المجتمع، الذين يعتبرون أنفسهم جزءًا من حركة ثورية مستمرة. إن المزايا المالية والاجتماعية الممنوحة للرواة والمشاركين الملتزمين تزيد من ترسيخ هذه الهويات، حيث تتم مكافأة الأفراد على التزامهم بالأيديولوجية الموصوفة، مما يعزز دورة الولاء والاصطفاف الأيديولوجي.

إن التفاعل بين التفاني الديني والولاء السياسي في إطار حزب الله هو عبارة عن دمج استراتيجي يهدف إلى ترسيخ نفوذه وشرعيته. عاشوراء، وهي حدث ديني مهم للغاية بالنسبة للمجتمع الشيعي، يستخدمه حزب الله كمنصة لمزج الحماسة الدينية مع الرسائل السياسية. وتربط الروايات المصممة بعناية والتي تم تسليمها خلال الاحتفالات بين الاستشهاد التاريخي للحسين ومساعي حزب الله السياسية والعسكرية المعاصرة، وتصور المنظمة كمدافع عن القيم والمصالح الشيعية. إن حضور مسؤولي حزب الله، بما في ذلك الأمين العام، وخطاباتهم خلال هذه الاحتفالات، يؤكد هذا الارتباط، ويعزز فكرة أن الإخلاص الديني لقضية الحسين يرتبط بطبيعته بالولاء السياسي لحزب الله. هذا المزيج من الروايات الدينية والسياسية لا يحشد المجتمع حول أهداف مشتركة فحسب، بل يضمن أيضًا اعتبار الدعم السياسي لحزب الله واجبًا دينيًا. ومن خلال تشابك هذه الجوانب، ينجح حزب الله في تسخير الأهمية العاطفية والروحية لعاشوراء لتحصين قاعدته السياسية وإدامة رؤيته للنظام المجتمعي والمقاومة.



التفاعل بين الحاكمية والمقاومة
إن سيطرة حزب الله الدقيقة على رواية أحداث عاشوراء وتنفيذها تجسد تطبيق مفهوم فوكو للحاكمية، حيث تعمل السلطة من خلال آليات للمراقبة والانضباط والتنظيم. ومن خلال أطره المؤسسية ووحداته المتخصصة، يؤسس حزب الله وجودًا مهيمنًا، ويشكل هويات أفراد المجتمع وذواتهم لتتماشى مع إطاره الأيديولوجي. ومع ذلك، فإن هذه السيطرة المركزية تثير أيضاً أشكالاً من المقاومة والتفاوض بين الأفراد والجماعات الشيعية. وبينما يسعى حزب الله إلى الحفاظ على سلطته من خلال التنظيم الصارم لسرد عاشوراء وفرض الالتزام بتوجيهاته، هناك حالات من الخلاف والاختلاف داخل المجتمع. إن إشراك المستفيدين المحليين، والتلاعب بالرمزية الدينية، والمزج الاستراتيجي بين التفاني الديني والولاء السياسي لا يؤدي إلى تعزيز قوة حزب الله فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى إثارة النقاشات والمعارضة بين أفراد المجتمع. وهكذا، فبينما يجسد حكم حزب الله عناصر السيطرة والإكراه، فإنه يحرض أيضاً على ظهور جيوب من المقاومة والفاعلية داخل المجتمع، مما يسلط الضوء على الديناميكيات المعقدة بين الحاكمية والمقاومة في السياقات ذات التوجه الديني.

يقدم تحليل حكم حزب الله خلال مراسم عاشوراء رؤى نظرية مهمة حول دراسة الحاكمية في السياقات الدينية. يوفر مفهوم فوكو للحاكمية إطارًا قيمًا لفهم كيفية ممارسة المؤسسات السياسية/الدينية، مثل حزب الله، للسلطة وتنظيم السلوك داخل مجتمعاتها. ومن خلال دراسة الطرق التي ينشر بها حزب الله استراتيجيات المراقبة والانضباط والتنظيم لتشكيل رواية عاشوراء والتأثير على سلوكيات ومعتقدات أفراد المجتمع، يوضح هذا البحث الطبيعة المتعددة الأوجه لعلاقات القوة في المجتمعات ذات التوجه الديني. علاوة على ذلك، تؤكد الدراسة على التفاعل الديناميكي بين السلطة الدينية والسيطرة السياسية، وتكشف عن كيفية استخدام الطقوس والرموز الدينية بشكل استراتيجي لتعزيز الأيديولوجيات السياسية وإضفاء الشرعية على الهياكل الحاكمة. وهذا يسلط الضوء على حاجة العلماء للتعامل مع الممارسات الدينية ليس فقط كتعبيرات عن الإيمان ولكن أيضًا كآليات للسيطرة الاجتماعية والسياسية. من خلال دمج رؤى فوكو في تحليل الحاكمية الدينية، يمكن للباحثين اكتساب رؤى أعمق حول الطرق التي تعمل بها السلطة داخل المجتمعات الدينية والآثار المترتبة على الديناميكيات الاجتماعية الأوسع وحركات المقاومة.

داخل المجتمع، تعمل سيطرة حزب الله المشددة على رواية أحداث عاشوراء وتنفيذها على تشكيل الهويات، وتعزيز الشعور بالهدف الجماعي، وتعزيز الولاء للمنظمة. ومن خلال التلاعب بالرمزية الدينية ودمج الرسائل السياسية، يحافظ حزب الله على وجوده المهيمن، ويحصل على الدعم والولاء من أفراد المجتمع. وعلى الساحة السياسية، يمتد نفوذ حزب الله إلى ما هو أبعد من الطائفة الشيعية، ليؤثر على السياسات والتحالفات في الداخل اللبناني. إن المزج الاستراتيجي للمنظمة بين التفاني الديني والولاء السياسي يعزز مكانتها كلاعب مهيمن في السياسة اللبنانية، ويشكل مسار الحكم والديناميكيات المحلية. وهكذا، فإن حاكمية حزب الله خلال مراسم عاشوراء لا تشكل النسيج الثقافي والاجتماعي للطائفة الشيعية اللبنانية فحسب، بل تمارس أيضاً تأثيراً عميقاً على المشهد السياسي الأوسع في لبنان.



الخاتمة
في الختام، بحثت هذه الورقة في الديناميكيات المعقدة للحاكمية داخل المجتمع الشيعي اللبناني، مع التركيز بشكل خاص على تأثير حزب الله خلال مراسم عاشوراء. ومن خلال تحليل متبنّي لمفهوم ميشيل فوكو للحاكمية، سلط البحث الضوء على كيفية ممارسة حزب الله للسلطة، وتنظيم السلوك، وتشكيل الذات داخل المجتمع. لقد كشف فحص الأطر والإجراءات والتكتيكات المؤسسية لحزب الله عن تفاعل معقد بين الحاكمية والمجتمع، مما يؤكد الطبيعة الدقيقة لعلاقات القوة داخل المجتمعات ذات التوجه الديني. ويسلط تجميع النتائج الضوء على تأثير حكم حزب الله على المجتمع الشيعي اللبناني، وتشكيل الهويات، وتعزيز الولاء، وتوليد أشكال المواجهة لهذا الحكم. علاوة على ذلك، سلط البحث الضوء على التداعيات الأوسع على المشهد السياسي في لبنان، موضحًا كيف يمتد تأثير حزب الله إلى ما هو أبعد من الطقوس الدينية ليؤثر على السياسات والتحالفات الوطنية. تؤكد الآثار النظرية لهذه الدراسة على أهمية التعامل مع الممارسات الدينية كآليات للسيطرة الاجتماعية والسياسية، مما يوفر رؤى قيمة حول ديناميكيات السلطة داخل المجتمعات الدينية. بشكل عام، يساهم هذا البحث في المناقشات الأنثروبولوجية حول علاقات القوة، والسيطرة الاجتماعية، والفاعلية، مما يوفر فهمًا دقيقًا للحاكمية في سياق المجال الديني في لبنان وخارجه.



المراجع

CIA. "Lebanon." The World Factbook. Accessed January 2024. https://www.cia.gov/the-world-factbook/countries/lebanon/#people-and-society.

Foucault, Michel. Security, Territory, Population: Lectures at the Collège de France, 1977-1978. Edited by Michel Senellart. Translated by Graham Burchell. Palgrave Macmillan, 2007.

Saouli, Adham. "Hizbullah in the Civilising Process: Anarchy, Self-Restraint and Violence." Third World Quarterly 32, no. 5 (2011): 925-942. Taylor & Francis, Ltd.

Daher, Aurélie. Hezbollah: Mobilisation and Power. Translated by H. W. Randolph. Oxford University Press, 2019.

النقوي، أبو الحسن. المواكب الحسينية: مدارس ومعسكرات. المركز الحسيني للدراسات. قم. 1983.

أحمد، موسى. "رسالات تحتضن الفن اللبناني في عاشوراء." ميديا وتلفزيون. جريدة الأخبار. بيروت. 2013.

شمس الدين، حسين. "الشعائر والسياسة في تجربة حزب الله." مجلة الآداب. بيروت. 2019.

مركز الإمام الخميني الثقافي. عاشوراء في فكر الإمام الخميني. جمعية المعارف الإسلامية. 2023.

قاسم، نعيم. عاشوراء مدد وحياة. دار المحجة البيضاء. الرويس. 2010.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رأي - حزب الله والتدمير الذاتي

ملخّص - مؤتمر وادي الحجير وآثاره - منذر محمود جابر

رأي - فليحكم الإخوان!