ملخّص - حول نشأة الفلسفة في مصر القديمة - حسن طلب


في هذا الملخّص, سنكتشف كيف تداخلت الأفكار الفلسفية مع الأديان والعلوم والحياة اليومية في مصر القديمة. سنستعرض التأثير الذي تركته المعتقدات الدينية والمفاهيم الأخلاقية في تطوّر الفلسفة المصرية, ونرى كيف كانت مصر القديمة مصدرًا للأفكار التي ألقت بظلالها على أنطلاقة الفلسفة في مرحلة لاحقة في آسيا الصغرى واليونان.

هذا الملخّص هو لكتاب "أصل الفلسفة, حول نشأة الفلسفة في مصر القديمة" تأليف حسن طلب



إن استقراء التاريخ الإنساني, يظهر لنا على أن الدين والفلسفة كثيرا ما يتبادلان موقعيهما, حيث أنّه في مصر القديمة, كانت الفلسفة تابعة للدين بوجه من الوجوه. يرجع هذا الى ان التجربة الدينية تحتوي على التجربة الأخلاقية والجمالية للإنسان, وتتجاوزهما لتعبّر عن (الإهتمام الأقصى) للإنسان. كما أن الفلسفة هي المنهج الذي يعتمده الدين للبرهان والحجّة على ما يدّعيه من عقائد. وما ينطبق على الدين يصدق على الأسطورة, إذ أنها تعكس معنى الكون والإنسان, وتعطي صورة شاملة عن العالم من وجهة نظر وحدات إجتماعية محددة, ونظام القيم الذي تستند اليه تلك الصورة. تعدّ الأسطورة شكلا قديما من أشكال الخيال الخلّاق ومن مظاهر المعرفة بالعالم المحيط, وهي قادرة على ان تتكيّف مع النظام الخلقي والعقلي السائد. لهذا فهي مع الأدب والدين تكون إحدى تجليات النشاط العقلي للإنسان, وطموحا فلسفيا عبر الإنسان من خلاله عن توقه المحموم للمعرفة.

كان الإعتقاد الديني في مصر مبنيّا على التوفيق والتوازن بين المثاليّة والماديّة. لذلك كان تقديسهم وعبادتهم للآلهة غير مقتصرة على طلب المنفعة الماديّة حصرا (مثلا, وفرة المحصول), بل تعدّت ذلك الى درجة من الروحانية تضمّنت تنزيها للآلهة عن الدونيّات. كانت الآلهة موزّعة على طوائف وطبقات المجتمع المصري, فكان لكل مجموعة الهها الذي يرعاها, وعمل كهنة كل اله على الحفاظ على هذا الإنقسام, وبالتالي أفشلوا محاولة أخناتون التوحيدية. وقد حافظ المصريون على اعتقادهم الديني لفترات طويلة, رافضين الرضوخ لمحاولات المحتلّين المتعاقبين (الآشوريين والفرس) لتغيير أو إضافة عنصر أجنبي على المنظومة الدينيّة, وهذا نتيجة لإرتباط المصري بأرضه ورسوخ هويّته نتيجة للطبيعة الجغرافية ولطول الفترة الزمنيّة التي تكوّنت فيها الهويّة المصريّة. كان الفرعون في الأسر الأولى هو المستحقّ الوحيد للخلود, وكانت عبادة أوزيريس موجّهة من كافة طبقات المجتمع لتحقيق هذه الغاية, إلّا أنّه مع مرور الوقت وضعف السلطة وإتاحة التعاويذ للجميع, أصبح طلب الخلود متاحا للجميع بشرط أن يكون الفرد مؤمنا بأوزيريس وقد سلك سلوكا أخلاقيا خلال الحياة الدنيا, وبهذا تم ربط المنفعة الإجتماعية بالحياة الثانية. لم تكن الحدود بين الآلهة والإنسان فاصلة ونهائية, بل كان هناك نوع من التداخل يبعث الى الإعتقاد بأن منشئ بعض الآلهة المصرية يعود لشخصيّات تاريخيّة مميّزة (مثلا, إيمحوتب). لقد كان إهتمام المصريين بالحياة الثانية ملفتا, إذ تجلّى واضحا في اهتمامهم بالقبور وتصميمها وزينتها وأثاثها, مع شبه إهمال لمساكنهم الدنيويّة, وقد كانو يعبّرون عن الموت ب(الرحيل) وعن الموتى ب(الذين هناك). إنقسمت الآراء فيما يتعلّق بموضوع الخلق بين من إعتمد نظرة ماديّة إبتدأت بالخواء وطرحت فكرة الأبيرون (المادة اللانهائية) وبين من انتحى الى المثالية (المذهب المنفي) الذي أرجع الخلق الى قدرة عاقلة مدبّرة كان سبيلها الى الخلق هو القلب واللسان (الإرادة والكلمة), وقد إجتمعت الآراء على أن الوصول الى المعرفة يكون عن طريق الإلهام الإلهي الموجود في قلوب كل الناس, هذا الإلهام الذي يتأصل من الرعاية الإلهية والقدرة المطلقة التي يتمتّع بها الإله في الإدارة والسيطرة على شؤون الخلق. إضافة الى القدرة والقّوة التي يتصوّر بها الإله, فهو أيضا يعتبر مصدرا للقيم العليا ووسيلة لتحقيق الحياة المثاليّة, وقد كان المذهب المنفي أوّل نصّ فلسفي في الحضارة المصريّة إبتعد عن الماديّة وركّز على المثل, إذ أنّه كان يقول بأن الإله هو من حدّد الخير والشرّ منذ البداية, وعلى هذا المقياس توضع أعمال الإنسان. إلّا أنّه بشكل غالب, كانت الأخلاق تقبع في معظم الحقبات تحت مظلّة الدين, واستمدّت فكرتها من ماعت (إلهة العدل) التي لم تكن فقط إبنة للإله رع (إله الشمس), بل هي كانت "غذائه وشرابه" بما يحمل ذلك من معنى. لقد استعملت كلمة ماعت بداية بمعنى الحقّ والصواب, ومع مرور الأزمنة اتّسع المعنى ليصبح نظيرا للقيم الخلقيّة, ليصل فيما بعد الى أن تكون رمزا للنظام الخلقي وحاكما للآلهة وللبشر على حدّ سواء, وبهذا الشكل أخذت بعد سياسي – إجتماعي عنوانه المساواة المطلقة بين الناس. إن تحقّق المساواة في الخلود, بفضل الديانة الأوزيريّة, جعل من الماعت مقياسا في المحاكمة الأخرويّة, فبها تتحقّق المسؤولية عند الأفراد عن كل ما يقومون به في حياتهم.

كان النجاح العملي في البداية هو المعيار للأخلاقيّة, طالما أنّ في هذا النجاح فائدة للجميع. إلّا أنّ هذا الحال لم يدم, اذ انهارت الدولة القديمة ومعها هذا المعيار تحت وطأة الفوضى وشيوع الإتجاه الفردي الأناني, ربطا بأن النظام القيمي كان مرتبطا بالمادّة. ثبت لدى تيّار من المصريين أنّ هذه المعياريّة الماديّة هي المسؤولة عن الضياع الحاصل, فبدأت القيم تنتقل من الإعتماد على العوامل الظاهرية الى التركيز العوامل النفسيّة الباطنيّة. لم يعد بناء الأهرامات هو السبيل الى الخلود, بل أصبح الخلود رهنا بالفضيلة. في نص (عنخو) يظهر هذا التيّار في دعوته للناس الى النهوض والدفاع عن القيم الإنسانيّة النبيلة وتحقيق العدالة والمساواة, وفي (تحذيرات أيبور) دعوة الى إقامة يوتوبيا في ظل حاكم عادل خيّر. وفي نفس الفترة, تعزّز تيّار مشكّك في كل القيم الماضية والحاضرة, وأصبح معيار اللذة والاستمتاع بمباهج الحياة هو النتيجة المباشرة للشك في قيم الأخلاق الرفيعة, فبالإستدلال المنطقي, توصّل أمثال (نفرحتب) الى أنّه ما دام مسألة النعيم الأخروي غير يقينيّة, فالأجدى بالأنسان أن يصر أهتمامه الى حياته الدنيا, لأنّه بناء على المعيار البراجماتي الذي هو تراكم الخبرة, رأى بأن السعي الى الخلود وتكريس الحياة من أجل غاية وهميّة هو معيار خلقي فاسد, فلا وجوج لدليل حسّي أو عقلي على هذا الإعتقاد. هذا التيّار الإرتيابي التشاؤمي أدّى الى بزوغ مذهب المنفعة في الأخلاق, القائم على ربط السعادة باللذة الحسيّة العاجلة في الحياة. ظهر أيضا تيّار عدميّ يائس, تجلّى في نص (حوار كاره البشر), الذي وصف الواقع الأخلاقي المتردّي واعلن استسلامه ويأسه من أي تغيير ورأى الخلاص بالموت هو السبيل الوحيد. فجدوى الحياة بالنسبة لهذا التيار مرتبطة عضويّا بوجود منظومة أخلاقيّة تحكمها, وإلّا فإنها لا تستحقّ التمسّك بها, فالتيّار العدمي رأى في الحياة الآخرة فرصة لتحقيق العدل والسعادة المنشودين. إنّ ظهور هذه التيّارات كان على حساب الدين السائد, فكما يقال "ما يكسبه العقل بالشكّ, يخسره الدين".

كان لفكّ ألغاز اللغة الهيروغليفية الأثر البارز على فهم الغايات الفلسفيّة والحاجات الجماليّة التي كان يسعى لها المصريّون من خلال أعمالهم الفنيّة. حاول المصريّون أن يقهروا الفناء من خلال الحضور الأبدي والخلود للنموذج الفني الذي هو صورة طبق الأصل عن موضوعه, هذا النموذج الذي يجسّد الطموح البشري الى اللا متناهي. كذلك فإنّهم عبّروا من خلاله إحساسهم ببهجة الحياة وتمجيدهم لها, حيث تخطّت الأعمال الفنيّة الإطار الديني لتلمس البعد الجمالي ما أدّى الى أن يصبح الفنّ قائما بحدّ ذاته وغاية يبدع من أجلها المصريّون. هذا التعبير الفنّي يدلّنا على وجود وعي جماليّ أنعكس على معتقداتهم وطريقة تفكيرهم وأسلوب عيشهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رأي - حزب الله والتدمير الذاتي

ملخّص - مؤتمر وادي الحجير وآثاره - منذر محمود جابر

رأي - فليحكم الإخوان!