ملخّص - جينيالوجيات الدين: القواعد وعوامل القوة في المسيحيّة والإسلام - طلال أسد
يغوص هذا الكتاب في قراءة جينيالوجيّة (علم الأنساب) لمفهوم الدين كما تشكّل في التاريخ الغربي الحديث, موضحاً أنّه ليس جوهراً إنسانيّاً ثابتاً, بل نتاج مسارات خاصة في المسيحية الأوروبية, من العصور الوسطى الى الحداثة. إنّ ما يوحّد فصول الكتاب المتنوعة هو أطروحة أساسيّة: أنّ الغرب حين يعرّف الدين, والطقوس, والنقد, والتسامح, يفعل ذلك من موقع سلطة, فيؤسس معايير تبدو كونيّة شاملة, لكنّها في الحقيقة مرتبطة بجذور تاريخية محددة, وتعمل على ضبط الإختلافات الثقافية والدينيّة تحت مظلّة العقلانيّة والعلمنة الحديثة.
هذا الملخّص هو لكتاب "جينيالوجيات الدين: القواعد وعوامل القوّة في المسيحيّة والإسلام" تأليف طلال أسد
المقدمة
تتناول المقالات التي جُمعت في هذا الكتاب شذرات من التاريخ الغربي وغير الغربي, سعيًا لطرح سؤال حول كيفية نشأة المفهوم الحديث ل"الدين", وما الذي لا يزال يُجيزه. لا ينصبُّ اهتمامي على الدين كجوهرٍ عابر للزمن, بل على الطرق التي جعلت بها ظروفٌ تاريخيةٌ مُحددة - وعلى رأسها تاريخ المسيحية في الغرب - "الدين" موضوعًا للمعرفة والتنظيم.
من أبرز أوجه عدم التماثل في العالم الحديث أنه بينما يتعين على الشعوب غير الغربية الانخراط باستمرار في تاريخ الغرب, نادرًا ما يشعر الغربيون بأنهم مُجبرون على فعل العكس. يُمكن كتابة تاريخ الفكر الأوروبي الحديث دون الإشارة إلى الإسلام أو الهند, لكن تاريخ الفكر العربي أو الإسلامي لا يُمكنه الفرار من التطرّق لأوروبا. هذا التباين بين الرغبة واللامبالاة هو في حد ذاته نتاجٌ للسلطة, وهو يُشكل الطرق التي تنمو بها التقاليد, أو تتحول, أو تتعثر بها.
إذا رغب علماء الأنثروبولوجيا في فهم الممارسات الإسلامية, أو أي تقليد غير غربي, فعليهم دراسة أصل مفهوم "الدين" في الغرب, لأن هذا الأصل هو الذي يُحدد كيفية ترجمة وتصنيف وتجاهل أساليب الحياة الأخرى. لذا, تبدأ استكشافاتي بسرد كيفية تشكيل "الدين" و"الطقوس" كفئات أنثروبولوجية. ثم أنتقل إلى جوانب من المسيحية في العصور الوسطى يعتبرها الإدراك الحديث متقادمة - الألم, والتوبة, والتواضع, وتهذيب النفس - لكنها كانت في السابق لا غنى عنها في الممارسة المسيحية. من هنا, أتناول مشكلة ترجمة الأفكار: كيف حوّلت الأنثروبولوجيا الثقافات الأخرى لتوائم مصطلحاتها المفاهيمية الخاصة, وكيف قُيّمت المظاهر الإسلامية للنقد العام بمعيار العقلانية في عصر التنوير. أخيرًا, في أعقاب قضية سلمان رشدي, أتناول مسائل الهوية والأدب والسياسة في بريطانيا, حيث كشفت النقاشات حول التسامح والتجديف والتعددية الثقافية الظروف العلمانية التي يُسمح للدين بالظهور في ظلها.
المنهج الجينيالوجي الذي أتّبعه ليس اختزالًا لجميع التواريخ في ظل هيمنة الرأسمالية العالمية. بل هو, بالأحرى, بحثٌ في الطرق التي تُجيز بها السلطة أشكالًا معينة من الحقيقة, وأنواعًا معينة من الإرادة الحرة, وتعريفاتٍ معينة لما يعنيه أن تكون دينيًا أو حداثويّا. "الدين", من هذا المنظور, ليس مجالًا جامعاً شاملاً للتجربة الإنسانية؛ إنه الأثر العرضي لممارسات خطابية وسلوكيّة محددة.
بنية الدين كفئة أنثروبولوجية
في معظم النشاط الفكري خلال القرن التاسع عشر, كان يُنظر إلى "الدين" على أنه جوهر إنساني عالمي, مرحلة بدائية انبثقت منها مجالات أكثر عقلانية - كالقانون والعلم والسياسة. وبحلول القرن العشرين, لم يعد علماء الأنثروبولوجيا يتعاملون مع الدين كمجرد شكل مقيد من المعرفة, بل واصلوا البحث عن جوهره: مجال عابر للتاريخ يمكن دراسته عبر الثقافات. هذا البحث هو ما يهمّني, لأنه يُخفي حقيقة أن ما نسميه "الدين" هو في حد ذاته نتاج تاريخ مميز, مرتبط في المقام الأول بالمسيحية وتحولاتها في أوروبا.
يُجسد تعريف كليفورد غيرتز الشهير للدين بأنه "نظام ثقافي" هذه المشكلة. يتعامل غيرتز مع الرموز كحاملات للمعنى, أنظمة تُثير في البشر أمزجة ودوافع معينة بوضعها ضمن مفهوم النظام الكوني. يصرّ هذا النهج على أن للدين جوهره المستقل - منفصلاً عن السياسة أو العلم أو المنطق السليم. إلا أن ما يجعل هذا التعريف مقنعاً ليس عالميته, بل التاريخ الحديث الذي يتجذر فيه: تاريخ سعى إلى حصر الدين, وتمييزه تمييزاً واضحاً عن مجالات الحياة الأخرى, حتى وإن كان يشملها سابقاً.
لنأخذ المسيحية في العصور الوسطى مثالاً. هنا, لم يكن الدين مجالاً منفصلاً, بل إطاراً شاملاً يحمل في طيّاته القانون والنظام والحقيقة. لم تكن التوبة والتعذيب والاعتراف مجرد أنظمة رمزية, بل ممارسات تُنتَج من خلالها الحقيقة وتُمارَس السلطة. لذا, فإن الحديث عن الدين كجوهر رمزي منفصل عن السلطة هو أمرٌ عفا عليه الزمن. تكمن سلطة الكنيسة تحديداً في قدرتها على التفويض والتمييز والسيطرة: تحديد ما هو مقدس وما هو مدنس, ما هو بدعة وما هو حقيقة.
إن محاولة تعريف الدين تعريفاً عالمياً, كما فعل غيرتز, تفترض مسبقاً وجود الدين في كل مكان بنفس الجوهر. وجهة نظري هي إن "الدين" ليس نوعا محددا تُعتبر المسيحية والإسلام أصنافا منه. إنه مفهوم تاريخي مشروط, تشكل نتيجة جهود مرحلة ما بعد الإصلاح الديني لفصل الدين عن السياسة والقانون والعلم, ومشروع التنوير الذي سعى إلى إضفاء طابع فردي خاص على الإعتقاد. إن تطبيق هذا التعريف على الثقافات الأخرى دون إعادة مراجعة هو تنصيب للتاريخ الغربي كنموذج فعّال ووحيد لفهم بقية العالم.
إذن, لا يمكن فهم الدين من خلال جوهره العابر للزمن. بل يجب مقاربته من منظور جينيولوجي, من خلال تتبع الممارسات الخطابية والسلوكيّة التي من خلالها أصبح على ما هو عليه في أزمنة وأماكن محددة. إن دراسة "الدين" من منظور أنثروبولوجي لا تعني البحث عن معناه الشامل, بل دراسة القوى التي تُعرّفه وتُجيزه وتُنظمه.
نحو دراسة أصل مفهوم الطقوس
لطالما ناقش علماء الأنثروبولوجيا معنى "الطقوس", وأعادوا تعريفها مرارًا وتكرارًا أملًا في فهم جوهرها الكوني. ومع ذلك, وكما هو الحال مع "الدين", فإن الخوض في هذا البحث لا يكشف عن المعتقدات الإنسانية العامة بقدر ما يكشف عن التواريخ المتغيرة التي يندرج فيها هذا المفهوم. إن تتبع أصل "الطقوس" هو إظهار كيف ارتبطت معانيها بمفاهيم متغيرة عن قواعد السلوك والتمثيل والذات.
في العالم المسيحي في العصور الوسطى, كانت الطقوس جزءًا لا يتجزأ من الانضباط الأخلاقي. لم تكن التوبة والاعتراف والزهد مجرد تعبيرات رمزية, بل كانت أساليب تُنظم الروح, وتُعيد صياغة الإرادة, وتُرسخ الحقيقة. كانت الطقوس, بهذا المعنى, تقنية لتشكيل الذات. لم تكن "مجرد شكل" يتعارض مع الجوهر الداخلي, بل مجموعة من الممارسات التي لا غنى عنها في الحياة المسيحية.
أثار عصر النهضة اهتمامات جديدة حول الذات وتمثيلاتها. هنا برزت فكرة أن الجوهر الداخلي قد يُميز عن الشكل الخارجي, وأن الطقوس العامة قد تُخفي حقيقةً خاصة. تدريجيًا, نشأ توتر بين الطقوس كتكرارٍ فارغٍ والإخلاص كتعبيرٍ أصيل. هذا التوتر, الذي استمر في الحداثة, شكّل المخيلة الأنثروبولوجية للطقوس في مقابل العاطفة, أو الطقوس كقناعٍ يُخفي الذات الحقيقية.
بحلول الوقت الذي تناولت فيه الأنثروبولوجيا دراسة الطقوس, ترسّخ هذا التناقض. غالبًا ما وضعت الطقوس كنقيض للمشاعر الأصيلة, والعفوية, والحياة الاجتماعية "الحقيقية". كان شيئًا يجب تفسيره, كتعبير رمزي عن مكنونات خفية, أو تجسيدٍ دراميٍّ للتضامن الاجتماعي. ومع ذلك, فإن هذا التناقض نفسه مستمد من تاريخ مسيحي وما بعد مسيحي أعاد صياغة العلاقة بين الممارسة والحقيقة.
إذن, فإن الحديث عن الطقوس كظاهرة إنسانية جامعة أمرٌ مُضلّل. فما يُعتبر طقوسًا, وكيفية تقييمه, يعتمدان على جدليات تاريخية محددة حول قواعد السلوك والتمثيل والذات. إن عالم الأنثروبولوجيا الذي ينظر الى "الطقوس" كفئة عامة مجرّدة يُشارك في صياغة هذا الفهم التاريخي, مُعيدًا إنتاج افتراضات غربية حول الشكل والجوهر, والجسد والروح.
ليس المقصود أن "الطقوس" غير موجودة, بل أن وضوحها مرتبط بسرديّات تاريخية مُحددة للقوة والمعرفة. إن جينيولوجيا الطقوس تكشف عن الحوادث الطارئة التي جعلتها تظهر كممارسة مُميزة قابلة للتسمية - شيء يُقارن بالإيمان, والعقل, والعاطفة. لفهم الطقوس من منظور أنثروبولوجي, يجب على المرء أن يُركز على تسلسلها التاريخي, بدلًا من السعي إلى استخلاص جوهرها العابر للزمن.
الألم والحقيقة في الطقوس المسيحية في العصور الوسطى
يتعامل الفكر الحديث مع الألم على أنه معاناة بدون معنى: شيءٌ يجب معالجته, وتخفيفه, والإبتعاد عنه. لكن في المسيحية في العصور الوسطى, لم يكن الألم بلا معنى, بل كان مُنتجًا للحقيقة. إن تتبع هذا الاختلاف يعني رؤية كيف تحوّلت مكانة الألم في الحياة الدينية, وكيف ارتبطت فكرة الحقيقة نفسها بتغيّر الممارسات المرتبطة بالجسد.
على سبيل المثال, لم يُنظر الى التعذيب داخل النظام القضائي في أوروبا خلال العصور الوسطى على أنه تسبّب في معاناة بدون جدوى, بل كوسيلة عقلانية لتوليد اليقين. كان الألم هو الأداة التي تُخرج الحقيقة الى النور, الذنب أو البراءة. على النقيض من ذلك, في فترات سابقة, إستعمل أسلوب "الإمتحان" كوسيلة للتوصّل إلى الحكم الإلهي دون وساطة؛ مثّل التعذيب تحولًا في طرق الإستجواب, حيث أُجبر الجسد نفسه على الكلام. هنا, لم يكن الألم مجرد أداة للأذى الجسدي, بل وسيلة لكشف الحقيقة.
وهذا المنطق نفسه حرّك الممارسات الكنسية. كانت التوبة في بدايات الكنيسة, ثم الزهد/الرهبنة لاحقًا, تنطوي على إماتة الجسد كسبيل إلى الصفاء الروحي. فالجسد, بعد تأديبه بالصوم والاعتراف والجلد, كان يُجبر على إظهار الحقيقة: حقيقة الخطيئة, حقيقة التوبة, حقيقة الخلاص. كان الألم علامةً ووسيلةً للتطهير الأخلاقي.
ولكن مع بزوغ الحداثة, أصبح يُنظر الى هذه الممارسات على أنها همجيةً وغير عقلانية و"غير حضارية". سعى عصر التنوير إلى إزاحة الألم من النطاق المشروع لصنع الحقيقة, وتقليصه الى مفهوم عنفي أو مرضي. أما الدين, بعد إعادة تعريفه في هذا النظام الجديد, فقد جُرّد من ارتباطه القديم بالمعاناة ووُضع ضمن نطاق المعتقد أو الأخلاق أو المشاعر.
ومع ذلك, لا ينبغي لهذا التحول أن يحجب الحقيقة التاريخية: فبالنسبة لمسيحيي العصور الوسطى, كان الألم جزءًا لا يتجزأ من إنتاج الحقيقة الدينية. فالمشكلة ليست في ما إذا كان الألم يكشف "حقًا" عن الحقيقة, بل في كيف أن ممارسات وسياقات محددة أعطت لهذا الادعاء موثوقية. إن تجاهل هذا هو فرضٌ لافتراضاتٍ حديثةٍ حول الجسد والمعنى على الماضي.
وهكذا, تكشف جينيالوجيا الألم في الطقوس المسيحية عن الظرف الزماني لتمييزاتنا - بين الحقيقة والإكراه, والمعاناة والمعنى, والدين والقسوة. ويُظهر أن ما تُعامله الحداثة على أنه من عصور غابرة كان في يومٍ من الأيام جوهرَ الحياة الدينية المسيحية.
حول الانضباط والتواضع في الرهبنة المسيحية في العصور الوسطى
لفهم الحياة الرهبانية في العصور الوسطى, علينا تجاوز مفهوم اعتبار الطقوس كمجرد أداء رمزي. ففي الدير, كانت الطقوس جزءًا لا يتجزأ من الانضباط, ولم يكن الانضباط قيدًا خارجيًا, بل ممارسةً لتشكيل الذات. لم تكن التواضع والطاعة والعمل فضائل مجردة؛ بل كانت تُزرع من خلال أساليب دقيقة تُعيد تنظيم الروح.
لم يكن المشروع الرهباني, كما يتضح جليًا في قانون القديس بنديكتوس, طريقة للتعبير عن الإيمان الباطني, بل منهج لتكوين رعايا قادرين على التقرب إلى الله. العمل اليدوي, والصمت, والاعتراف, والطاعة, كل هذه الممارسات كانت وسائل لتدريب الراهب على استيعاب إرادة رئيس الدير, ومن خلالها, إرادة الله. لم تكن الطاعة مجرد اتباع للأوامر, بل تنمية التواضع كسلوك, وتوجيه الروح نحو الغاية الإلهية.
لم تكن الطقوس هنا مُعارضةً للإخلاص؛ بل كانت الشرط الأساسي لإنتاجه. طقوس التوبة, على سبيل المثال, لم تكن ترمز إلى الندم فحسب, بل جعلت الوصول الى الندم ممكنًا. فمن خلال التكرار والتصحيح والخضوع الجسدي, كان الراهب يُدرّس كيفية السيطرة على رغباته, وكيف ينظر الى نفسه أمام الله.
إن الأنثروبولوجيا الحديثة, بمقارنتها بين الطقوس من جهة وبين الجوهر الداخلي أو العاطفة من جهة أخرى, تُغفل هذه النقطة. ففي المسيحية في العصور الوسطى, لم تكن الطقوس والانضباط أقنعةً للذات, بل أدواتٍ لخلقها. لم يكن تواضع الراهب شعورًا عفويًا, بل نتاج تدريبٍ مستمر, مدعومًا بشبكةٍ من الممارسات التي تربط الجسد والروح بالنظام الإلهي.
إن اعتبار الانضباط الرهباني عتيقًا أو "ما قبل الحداثة" هو إغفالٌ لكيفية عمله كتقنيةٍ للقوة والحقيقة. بالنسبة للكنيسة في العصور الوسطى, كان تكوين رعايا مطيعين ومتواضعين أمرًا لا غنى عنه للحياة الدينية. وهذا الشكل من تكوين الرعايا تحديدًا - وهو غريبٌ جدًا عن الإدراك الليبرالي الحداثوي - هو ما يكشف عن مدى دقة افتراضاتنا التاريخية حول الحرية والانضباط والدين.
مفهوم الترجمة الثقافية في الأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا
لطالما وصفت الأنثروبولوجيا مهمتها بأنها ترجمانية: تحويل الغريب إلى مألوف, وجعل الثقافات الأجنبية مفهومة للقراء الغربيين. ولكن أي نوع من الترجمة هذا؟ على عكس الترجمة بين لغات متساوية, اتسمت الترجمة الأنثروبولوجية تاريخيًا بعدم المساواة. لقد كانت حركة من مجتمعات تُعتبر "تقليدية" إلى مفاهيم نابعة من الحداثة الغربية التي تُحدد معيار الوضوح.
ادّعت جماعة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا, على وجه الخصوص, أنها تقوم بإنتاج معرفة موضوعية من خلال استبعاد اختلاف اللغات واختزالها في منظومة وصفيّة شاملة. لكنها بذلك غالبًا ما حجبت الفروقات بين اللغات التي يتم الوصل بينها. فبينما ترجم علماء الأنثروبولوجيا ثقافات أخرى إلى الإنجليزية, لم يُتصوّر قط ترجمة متبادلة للثقافة الإنجليزية إلى تلك الثقافات الأخرى. وهكذا, كانت الترجمة جزءًا من مشروع أوسع للسلطة الاستعمارية: أن تعرف, وأن تصنّف, وأن تجعله متاحا.
ومع ذلك, فإن الترجمة ليست بريئة أبدًا. الترجمة هي أيضًا تحويل, أي إقرار أسلوب خطابي واستبعاد أساليب أخرى. في الأنثروبولوجيا, غالبًا ما استلزمت الترجمة الثقافية تجريد الممارسات من سياقاتها المتضمنة وإعادة تقديمها بلغة ذات وظيفة اجتماعية, أو بنية رمزية, أو نظام ثقافي. ما يبدو وصفًا محايدًا هو في الواقع إعادة تنظيم للمعنى تُفضّل أشكالًا معينة من العقلانية على غيرها.
إذن, لا يقتصر الأمر على دقة الترجمة فحسب, بل على شروط إمكانية تطبيقها: من يملك القدرة على ترجمة من؟ ما هي اللغات التي تُعتبر قادرة على حمل معنى الحقيقة الشاملة, وأيها تُختزل إلى مجالات محددة؟ إن دراسة الترجمة الثقافية تعني مواجهة أوجه عدم المساواة التي تجعل الأنثروبولوجيا نفسها ممكنة, والاعتراف بأن ما تدعيه من ترجمة أمينة دائمًا ما تتوسّطه مراحل الهيمنة وعدم التكافؤ.
وهكذا, يجب فهم المفهوم الأنثروبولوجي للترجمة من منظور جينيولوجي: ليس كعملية عابرة للزمن للتفاهم بين الثقافات, بل كممارسة تتشكل من خلال العلاقة غير المتكافئة بين اللغات والتقاليد والقوى. الترجمة لا تتعلق بالتواصل فحسب, بل تتعلق أيضًا بسياسة من يحصل على التمثيل, ومن يجب أن يكون ممثَّلاً.
حدود النقد الديني في الشرق الأوسط
في الفكر الغربي الحديث, أصبح "النقد" يُشير إلى فضيلة مُتميزة: إستعمال العقل لتحدي العقائد, ومقاومة السلطة, وإبراز الحقيقة في مواجهة دعوات التقاليد. وقد ارتبط هذا المثال النقدي, المُحتفى به منذ عصر التنوير, بالدولة الحديثة والمفاهيم العلمانية للعقلانية. عندما ينظر الغرب إلى الإسلام, فإنه غالبًا ما يفعل ذلك من خلال هذا المنظور: التساؤل عما إذا كانت التقاليد الإسلامية قد سمحت بالنقد, أو ما إذا كانت قد مكّنت من التغيير, أو ما إذا كانت قد عارضته فقط بتشدّد غير عقلانية.
لكن هذا الإطار بحد ذاته خاص تاريخيًا. ففي الشرق الأوسط الإسلامي, نجد ممارسات للنقد في المجال العام, وإن لم تكن بالشكل الذي يفترضه منهج عصر التنوير. كانت النصيحة - وهي الإرشاد المُوجه للحكام أو المجتمعات - أسلوبًا من أساليب النقد الأخلاقي والسياسي المتجذّر في العقيدة. لم تفصل الدين عن السياسة, ولم تهدف إلى إرساء عقلانية مستقلة؛ بل سعى بدلاً من ذلك إلى مواءمة السلوك مع الغاية الإلهية. إن رفض هذا الشكل من النقد باعتباره نقداً غير كافٍ هو فرض معيار غربي للعقلانية كمقياس عالمي.
ربط مشروع التنوير "العقل النقدي" بالدولة العلمانية: فحق النقد مُمكّن ومُقيّد في آنٍ واحد بأشكال جديدة من القانون والسيادة والحكم. على النقيض من ذلك, في التقاليد الإسلامية, كان النقد مسموحاً به ضمن فضاء خطابي حيث لا يمكن الفصل بين الأمر الإلهي والواجب الجماعي والسلطة السياسية. إن وصف هذا بأنه "غير عقلاني" أو "غير نقدي" هو تجاهل للأصول المختلفة لما يعنيه الجهر بقول الحقيقة.
من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين, ومع توسع نفوذ القوى الأوروبية, تغير معنى "النقد" نفسه. حُكم على الممارسات الإسلامية في النصح والإرشاد بشكل متزايد بناءً على معايير عصر التنوير لدى الفكر العلماني. وكانت النتيجة ظهور التباين: فقد بدا النقد الغربي شاملاً, بينما بدا النقد الإسلامي ضيق الأفق أو منقوصاً. ومع ذلك, كان كلاهما تشكيلات عرضية تاريخياً, مرتبطة بتقاليد متمايزة من القوة والحقيقة. ليست العبرة أن الإسلام افتقر إلى النقد, ولا أنه يجب قياسه بمُثُل عصر التنوير. بل إن مفهوم النقد بحد ذاته له تاريخ, تاريخ يربط العقلانية بالسلطة, والحرية بالانضباط, والحقيقة بالقوة. لذا, فإن دراسة "النقد الديني" في الشرق الأوسط تكشف عن حدود تصنيفاتنا - حدود تُميّز عدم التكافؤ بين التاريخين الغربي والإسلامي.
التعددية الثقافية والهوية البريطانية في أعقاب قضية سلمان رشدي
لم يكشف الجدل الدائر حول رواية سلمان رشدي "آيات شيطانية" عن مجرد تعارض بين "حرية التعبير" و"التعصب الديني", بل كشف أيضًا عن افتراضات أعمق حول معنى الانتماء إلى بريطانيا الحديثة. وُصفت قضية رشدي كحالة اختبار: هل يمكن للمسلمين أن يكونوا جزءًا من مجتمع ليبرالي متعدد الثقافات إذا رفضوا قبول الشروط العلمانية للحياة العامة؟
استند الخطاب الليبرالي البريطاني إلى فكرة الثقافة الوطنية المشتركة - مساحة يمكن فيها التسامح مع الاختلافات, شريطة أن تتوافق مع معايير علمانية معينة. إلا أن مفهوم الثقافة كأرضية مشتركة لم يكن بريئًا؛ بل كان مرتبطًا بتاريخ الدولة والإمبراطورية الحديثة. لطالما أدارت بريطانيا الاختلاف من خلال تصنيف رعاياها المستعمَرين أو دمجهم أو إقصائهم. وعندما هاجرت العمالة من المستعمرات السابقة إلى بريطانيا, حاملةً معها ممارسات دينية مختلفة, عادت الفئات الإمبريالية القديمة إلى الظهور في بيئة محلية.
وهكذا أصبحت "التعددية الثقافية" مصطلحًا سياسيًا لإدارة الاختلاف. فمن جهة وعدت بالتسامح والشمول؛ ومن جهة أخرى, وصفت بعض الممارسات - لا سيما الدينية منها - بأنها إشكالية, بل وخطيرة. لم تُصوَّر احتجاجات المسلمين على رواية رشدي كأفعال نقد سياسي, بل كدليل على التخلف, ورفض للعقل الحديث. بهذه الطريقة, احتفت التعددية الثقافية بالتنوع, وأكدت على الشروط العلمانية التي يُمكن في ظلها قبول التنوع.
كشفت قضية رشدي عن مفارقة الحداثة الليبرالية: إذ لم يمتد التسامح إلا إلى تلك الاختلافات التي لم تتحدَّ سلطة النقد العلمانية. ما إن طالب المسلمون باعتبار التجديف إساءة حقيقية, حتى طُردوا خارج نطاق الخطاب السياسي المشروع. لم يُفهم طلبهم كشكل مختلف من أشكال العقلانية العامة, بل كاعتداء على العقل نفسه.
ما أظهرته القضية في النهاية هو أن الهوية البريطانية لا تزال تتأثر بماضيها الإمبريالي. لم تتغلب التعددية الثقافية على البنية الاستعمارية؛ بل أعادت صياغتها. لقد رسمت حدودًا بين التعبير الثقافي المقبول والعاطفة الدينية غير المقبولة, بين من يحق لهم الانتماء إلى الأمة ومن لا يحق لهم ذلك. كان خطاب الليبرالية, بعيدًا عن الحياد, متورطًا بعمق في هذا العمل التصنيفي والإقصائي.
الإثنوغرافيا والأدب والسياسة
في أعقاب سقوط الإمبراطورية البريطانية, ازداد التشابك بين الأنثروبولوجيا والأدب والسياسة. روايات ما بعد الاستعمار, التي يُحتفى بها في الغرب كنوافذ على عوالم أخرى, غالبًا ما كانت فرصًا للاعتراف بالذات الغربية أكثر منها لقاءات مع الاختلاف. في بريطانيا, على سبيل المثال, أُطِّرت قراءات بعض نصوص ما بعد الاستعمار بسرديّة التسامح الليبرالية: تم تقدير الأدب بقدر ما تدجّن بلغة التنوع, بينما هُمّشت الأصوات التي قاومت هذا التدجين.
جسّدت قضية رشدي هذا التوتر. لم تُعتَبَر رواية "آيات شيطانية" أدبًا فحسب, بل نصًا سياسيًا, دليلًا على التزام بريطانيا الليبرالي بحرية التعبير. ومع ذلك, وُصِفَت احتجاجات المسلمين ضدها على أنها اعتداء على الأدب نفسه, وعلى القيم العالمية للفن والنقد. في هذا السياق, لم تُقيّم الرواية من خلال المعايير الأدبية, بل بالاستخدامات السياسية التي وُضِعَت لها.
يكشف هذا عن مشكلة أعمق: فالإثنوغرافيا والأدب, رغم اختلاف نوعيهما الأدبيين, يشتركان في ادعاء الحقيقة بشأن الحياة الثقافية. فكلاهما يعتمد على التمثيل الانتقائي, وعلى تحويل التجربة المعاشة إلى نص. ويمكن أن يتورط كلاهما في صراعات سياسية حول من يملك سلطة الكلام, ومن يُعترف بصدق روايته للواقع. في بريطانيا ما بعد الاستعمار, ظلت هذه السلطة موزعة بشكل غير متساوٍ: إذ مال الأدب والأنثروبولوجيا على حد سواء إلى تعزيز هيمنة القيم الليبرالية مع استبعاد أشكال النقد الدينية أو غير العلمانية.
ما يتضح إذن هو أنه لا الإثنوغرافيا ولا الأدب يمكنهما البقاء خارج السياسة. فكل منهما يشارك في بناء الجماهير, وفي تفويض بعض الأصوات وإسكات أخرى. إن خطاب الأدب كفن عالمي, أو خطاب الإثنوغرافيا كوصف محايد, يخفي مكانهما ضمن شبكة سلطة أوسع.
إن معالجة هذه التشابكات تعني إدراك أن ادعاء الغرب العلمانية الشاملة - في الفن والعلم والسياسة - يرتكز على جينيولوجيا ناظمة لما يتم قبوله من إختلاف أو رفضه. نصوص ما بعد الاستعمار, مثلها مثل الروايات الإثنوغرافية, لا تكتفي بالوصف؛ بل تُشارك في الصراع الدائر حول من يحق له التحدث, وما يُعتبر عقلانيّا, وكيفية تمثيل الحياة الثقافية.
تعليقات
إرسال تعليق