ملخّص - الفقيه والدولة: الفكر السياسي الشيعي - فؤاد إبراهيم

إن السياسة الشرعية الشيعية موضوع فقهي بالدرجة الأولى, وبحسب نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم, فإن الفقيه هو وحده الأجدر بصياغة الموقف الشرعي من الدولة. إن الدولة التي يروم الفقيه تدشينها تخضع لمعايير شرعية خاصة, لا شأن لها بالدول العصبوية المتعارف عليها (قبليّة, قوميّة...), وإنما هي دولة تخضع لمعايير فقهية فحسب, وهذه المعايير تمنح الفقيه الولاية على الدولة التي يقيمها. باتت الحزبية الشيعية كإطار متطور لحركة الفقيه في الميدان السياسي وكأداة مستحدثة للوصول الى الدولة, مشدودة الى نوع من المصاهرة الحميمية مع الفقيه لاكتساب مشروعية العمل من أجل إقامة الدولة, إذ بدونها تفقد أي جماعة سياسية مصداقيتها ومشروعيتها وجماهيريتها أيضا.

هذا الملخّص هو لكتاب "الفقيه والدولة: الفكر السياسي الشيعي" تأليف فؤاد إبراهيم



ماهية الفقيه والدولة

الفقه والفقيه

الفقه لغة هو العلم بالشيء والفهم له, وعند بعض الأعلام هو التوصل الى علم غائب بعلم شاهد, وقد جعله العرف خاصا بعلم الشريعة. إقتصر دور الفقيه الشيعي بداية على تداول وتعميم الأحاديث النبوية الموثوقة والقطعية الدلالة المروية عن طريق الأئمة الإثني عشر والتي عرفت بالأصول الأربعمائة, مع التشديد على نبذ الإجتهاد بوصفها أعمالا ظنيّة. بعد حدوث الغيبة الكبرى عام 329 ه, برزت الحاجة الى تدوين الحديث عند الشيعة وحفظه في جوامع كبرى بعد أن انتهى عصر النص وتنامي الميول المذهبية في تلك الفترة, فظهر (الكافي) للكليني و(من لا يحضره الفقيه) للصدوق و(التهذيب) و(الإستبصار) للطوسي, وصارت حتى يومنا هذا المرجعية في استنباط الأحكام. إن قيام الفقهاء حينها بدور "رواة الحديث" دون إضافة وعيهم على ما يروى, يدل على أن الغاية هي غرس الإعتقاد بجدارة وكفاية النص الديني, وهو بالضبط ما تبنّاه الخط الإخباري, الذي يحيل الى نفي مطلق لنيابة الفقيه عن الإمام المعصوم. بيد أن التحولات السياسية بعد الغيبة الكبرى, خاصة إثر قيام دولة بني بويه الشيعية 334ه, أفرزت تمايزات في الوسط الكلامي/الفقهي بين المدرسة الإخبارية في قم (ابرز اعلامها أبي الحسن بن بابويه وإبنه الصدوق) وبين مدرسة أصولية تجديدية في بغداد (أبرز أعلامها "القديمَين" ابن جنيد الإسكافي وابن ابي عقيل العماني) التي تأثرت بحركة الإجتهاد في العالم السني وحركة الفلسفة والعقليات التي تنامت في القرن الرابع الهجري. إذ إن الشيعة واجهوا مبكرا انسدادات فقهية مع بروز مسائل مستحدثة استدعت تجاوز متون الأحاديث سعيا الى تأويل النصوص, أي الإنتقال من الأصول الى الفروع.
إن مسار العمل بالأصول العقلية رافقه موقف احتجاجي على الإجتهاد, الذي إكتسب مدلولا سلبيا في الوعي الفقهي الشيعي القديم. وحيث كان أبي حنيفة قد تبنّى القول بالرأي إذا عدم النص في القضيّة, فقد ووجه بمعارضة شديدة من أئمة الشيعة, ففي قصّة منقولة عن عبد الله بن أبي شبرمة, قال جعفر الصادق لأبي حنيفة:

"... اتق الله ولا تقس, فإنا نقف غدا نحن وأنت بين يدي الله فنقول: قال الله وقال الرسول, وتقول أنت وأصحابك: قسنا ورأينا, فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء"


وقد تركت مثل هذه الروايات تأثيرا شديدا في عمل فقهاء الشيعة, فكانوا, في المرحلة الأولى من عصر الغيبة الصغرى, يصنّفون الكتب في دحض طريقة المجتهدين في مدارس الفقه السني (النوبختي في الرد على عيسى بن أبان في الإجتهاد). ونهض علماء الشيعة في بادئ الأمر لمواجهة المؤاخذات السنية على الشيعة وصرحوا بأنه لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية بالظنّ. وهذا يفسر سبب عزوف فقهاء الشيعة عن الإجتهاد وإعلانهم الحرب على الآخذين به, ومن ذلك تعرض ابن الجنيد الإسكافي لحملة تقريع ضارية من الفقهاء الشيعة (كالمفيد والمرتضى والطوسي) بعد تصنيفه كتاب (تهذيب الشيعة) حيث جمع فيه الأصول والفروع والإستدلال. لكن الضغوط التي تعرّض لها فقهاء الشيعة من الحركة الأصولية في العالم السني, دفعتهم للبحث عن وسائط عقلية تتيح للفقيه انتاج معارف وأحكام جديدة, حيث لم يعد الركون الى الأصول النقلية وحدها كفيلة بتقديم إجابات وافية عن تلك المسائل غير المألوفة في عصر الأئمة, وبالتالي الى المزاوجة بين النص والاجتهاد.

إتفق كثير من علماء الشيعة على أن الشيخ الطوسي هو مؤسس الإجتهاد المطلق عند الشيعة, وإنه أول من وضع فيصلا بين الفقه المنصوص (فقه الرواية) والفقه المستنبط (فقه الدراية). تقسّم الحياة العلمية للشيخ الطوسي الى مرحلتين:
  • مرحلة النقل: صنّف خلالها كتابيه الكبيرين في الحديث (تهذيب الأحكام) و(الإستبصار) وقد كتبهما في بدايات حياته العلميّة خلال الخمس سنوات في مجلس درس الشيخ المفيد.
  • مرحلة العقل: بدأ فيها الإنفتاح على علوم المذاهب الأخرى, فاستحسن نظرات المذهب الشافعي في الأصول والكلام, وروّج للفقه التفريعي وطريقة الإجتهاد في كتابه (المبسوط).
ومن الضرورة الإشارة الى أهمية علم الكلام في العقل الشيعي, حيث أن علم الكلام الشيعي تأسس على يد هشام بن الحكم (تلميذ جعفر الصادق) وكان الهدف منه الدفاع عن المذهب والرد على المخالفين. وقد تميّز به الشيخ المفيد, حيث برع في إتقان الجدل الكلامي لدرجة إقناع خلق كثير بالتشيع, حيث أشار اليه الخطيب البغدادي في ترجمته "هلك به خلق من الناس, الى أن أراح الله المسلمين منه".

ستكتب على يد الطوسي مرحلة جديدة من الجمع بين العقل والنقل, حيث أن علم الكلام أمد العقل الشيعي بسلاح فعال في تأويل النص الديني, ثم جاء علم الأصول ليعزز من فعالية ذلك السلاح, من خلال منح العقل صلاحية المساهمة ارتكازا على النص في صناعة نصوص جديدة. وبالنتيجة, احتكرت الكتابات الفقهية والعقدية للجيل الأول والشيخ الطوسي خاصة المجال الفقهي الشيعي, واعتمد الفقيه الشيعي على محاكاة مقولاته لما يقارب القرن من الزمن, ما أدى الى خمود النزعة العقلية واستحالة أي تجديد فقهي أن يرى النور في ظل الإنشداد الصارم نحو الماضي برمزيّة الشيخ الطوسي.

مهّد ابن ادريس الحلّي الأجواء لبداية التحول الفقهي بعد إصداره كتاب (السرائر) الذي أخضع فيه مقولات وآراء الشيخ الطوسي في (النهاية) للنقد والتجريح. وتبعه المحقق الحلّي في (معارج الأصول) حيث قدّم الإجتهاد لا بكونه مصدرا للحكم, بل استنباط الأحكام من مصادرها, وصادر كتابه (شرائع الإسلام) مكانة (النهاية) للطوسي. وبنى العلامة الحلّي على رأي أستاذه المحقق, فنص في كتابه (مبادئ الوصول الى علم الأصول) بأنه يجوز للعلماء الإجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات في القرآن والسنة, وترجيح الأدلة المتعارضة, وأما أخذ الحكم من القياس والإستحسان فلا.

إن نشوء هذا التيار الإجتهادي أسس لمواجهة مع التيار الإخباري, والتي اندلعت في شكلها الراديكالي في العهد القاجاري, حيث شن الشيخ محمد الإستربادي هجوما ضاريا على الأصوليين متهما إياهم بمحاربة سنة أهل البيت, فنجح في كسر شوكتهم وساعد على ظهور الموسوعات الحديثية مثل (بحار الأنوار) للعلامة المجلسي. انبرى الشيخ محمد باقر البهبهاني لشن هجوم مضاد على الخط الإخباري وأنقذ الأصوليين من نهاية حتمية, واتسمت المعركة بالتطرف, حيث وصف الشيخ كاشف الغطاء من أنكر الإجتهاد "جاحد بلسانه معترف بجنانه وقوله مخالف لعمله" وجاء من بعده تلميذه المولى محمد النراقي, المؤسس الأول لنظرية ولاية الفقيه, وزاد على استاذه في إضفاء طابع ولايتي على الإجتهاد يستمد مشروعيته وديمومته من الله, وقال في (مستند الشيعة) "ولاية الاجتهاد حق ثابت من الله ومن حججه للمجتهد". اخذت النزعة العقلانية انطلاقتها الثالثة مع الشيخ مرتضى الأنصاري وتلامذته, حيث ذهب في كتابه (فرائد الأصول) الى "بطلان عبادة تارك طريقة التقليد والإجتهاد" وجاء السيد محمد كاظم اليزدي لينزل الرأي الأصولي لاستاذه الأنصاري منزلة الفتوى الشرعية الملزمة, وكان أول من وضع في الكتب الفقهية بابا بعنوان "التقليد والاجتهاد" وثبّته في رسالته العملية (العروة الوثقى) التي أعتبرت نموذجا يحتذى في ترتيب الفتاوى وتصنيف أبواب الفقه.

منذ تحرير عقل الفقيه, الذي بدأ فعليا من مدرسة الحلة في القرن السادي الهجري, بدأ الإنفراز في المدرسة الإمامية بين خطي النقل والعقل, فالخط النقلي الإخباري يعتمد في استنباط احكامه على مصدرين, الكتاب والسنة, أما الإتجاه العقلي الأصولي فيعتمد على مصادر أربعة هي, الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

الدولة

مفهوم الدولة في الإصطلاح السياسي الغربي الحالي يعبّر عنه بالكيان السياسي لجماعة بشرية تعيش ضمن إطار جغرافي وتاريخي وتنظيمي "ثابت" وتمارس سيادتها عليه. وفي الإصطلاح العربي, فإن الدولة لغة بحسب إبن منظور هي "إسم الشيء الذي يتداول, والدولة الفعل والانتقال من حال الى حال" الأمر الذي يتنافى والمقصود بكلمة دولة بالإنجليزية state والتي تعني حالة ثابتة, فلم يكن مصطلح "الدولة" يعني في اللغة هذا المعنى السياسي. حتى وقت قريب لم يكن ممكنا التمييز بين الدولة والسلطة في التراث السياسي العربي, فالدولة الأموية والدولة العباسية وغيرها ليست إلّا الأسرة الحاكمة في المعجم المعاصر وليست الدولة. وفي الإطار التاريخي الإسلامي, واستنادا الى التمايز بين المفهومين, لم تكن هناك دولة إسلامية بقدر ما كانت هناك حكومة إسلامية منذ الهجرة النبوية الى انتهاء الخلافة الراشدة, حيث أن غياب الإقليم الثابت يؤول الى نفي الدولة الإسلامية, فقد كان التقسيم الفقهي مترددا بين دار الإسلام ودار الكفر. ولم يقصد بدار الإسلام حدود واضحة, لأن الأولوية كانت للتمدد الدعوي لا التوسع الجغرافي, فكلما انتشر الإسلام اتسعت دار الإسلام. فالأمة الإسلامية لم يرد منها إقامة كيان جغرافي أو سياسي منغلق, بل نشر الإسلام في العالم بأسره, لهذا السبب لم يجر الإعتناء بالأرض في المباحث الفقهية سوى فيما يتصل منها بإقتصاديات الأمة.

كان مضمون الإمامة مغايرا ومتجاوزا لمضمون السلطة, وقد نجد في تفريق فقهاء الشيعة بين الإمام والسلطان ما يرمز الى تلك المغايرة, فالإمامة قد تعني الدولة بكافة مهامها. ولعلنا نستنتج بأن الإسلام حين حدد الوظائف والمهام, لم يفرض تبعا لها نموذجا محددا نهائيا للإطار التنظيمي, وإنما تركها لاجتهادات البشر في تطوير نماذج تتناسب والزمان والمكان والحاجات الخاصة بهم. وهذا يعني أن الحديث عن نموذج نهائي ضرب من ضروب التعصب والصنمية, فمن المعروف أن الدولة الأوروبية الحديثة وليدة عملية تاريخية, انتهت الى صيغة الدولة ولم تبدأ بها. أما ديار الإسلام فإنها لم تشهد هذه العملية التاريخية التراكمية, وبالتالي فإن تطور مجالها السياسي مختلف عن نظيره الأوروبي, فالإسلام لم يعرف صراع الكنيسة, كما لم يشهد صراعا بين الكنيسة والأمير.


التكوين السياسي الشيعي

أصالة النظام السياسي

إن الإمامة في تكوينها وشروطها ووظائفها تمثل مشروع الدولة الدينية بأغراضها التنظيمية, والتشيّع في تكوينه ظاهرة إحتجاجية على الدولة البشرية, وفي مقصده النهائي تأسيس الدولة الإلهية على الأرض, وهذا المقصد يمثل صبغة ومبرر وجود واستمرار التشيّع. وفي تواصل مع هذه الحقيقة, أسست المدونات الشيعية الأولى لوعي إنتظاري يفضي الى تعليق وظائف الدولة الدينية الرئيسية (الجباية, الحدود, الجهاد ...). ونحن في هذا الصدد نتعامل مع ثلاث طوائف من الروايات الشيعية تعاطت مع الدولة/السلطة, وساهمت بصورة مباشرة في توجيه دفة الفقه ووعي وسلوك الفقيه.
  1. الطائفة الأولى: تبيّن هذه الروايات أن الدولة/السلطة تظل غصبيّة منذ انفلاتها من حيّز الشرعية الإلهية, أي منذ انصرافها عن أصحابها الشرعيين, الأئمة. فالغيبة في الرؤية الشيعية التقليدية هي أولا تعبير إحتجاجي على الدولة القائمة يستبطن حجب مشروعيتها, وثانيا أن الغيبة يعني إنقطاع إمكانية تحقق الدولة الشرعية (المحاولة ليست ذات جدوى, الإمامة يوتوبيا تقع خارج إطار القدرات البشرية, الحتميّة التاريخية بظهور المهدي وإقامة دولة الحق). وفي سياق هذا الوعي الغيبوي, يفقد الواقع أهميته لحساب المنتظر, وهكذا يسقط الفقيه بحث أسس الدولة وإدارة الناس كحاجة اجتماعية ماسة. وقد انعكست هذه المعتقدات على تصنيفات الفقهاء الشيعة الأوائل, فقرروا تعطيل ما يدخل حسب اعتقادهم في ولاية الإمام المعصوم. إن الطغيان السياسي الذي عانى منه الشيعة خلال حكم الأمويين والعباسيين دفع الفقهاء الى التحذير من مخالطة السلطان ورفض مجرد التفكير في السلطة واعتصام التقية (كإحدى ردود الفعل الشيعية على السلطة).
  2. الطائفة الثانية: تبيّن هذه الروايات أن ثمة رؤية راسخة عند الشيعة تؤكد أن السلطة ليست ذات قيمة إيجابية في التقليد الإسلامي, بل هي مورد نفور خاصة منذ تفجّر الصراع على السلطة وخروجها من أهل البيت. لقد أكدت النصوص الدينية الشيعية على أن الإقتراب من السلطان يعني الجنوح الى المعصية, فالسلطان هو نقيض التقوى والورع والزهد, والسلطة جائرة وفاسدة ومفسدة, والأصل أن رسالة الإسلام جاءت لإيصال كلمة الدين الى الدولة (الجائرة دائما).
  3. الطائفة الثالثة: تسعى هذه الروايات الى إرجاع السلطة الى مكوّنها الطبيعي المؤسس على النزوع البشري نحو وجود نظام, إذا تقدم مخرجا مقبولا إثر انسداد أفق الإمامة برسوخ سلطان خصوم الشيعة, إذ ليس أمام الشيعة سوى الإعتقاد بوجود حاجة فعلية للتعاطي مع سلطان الوقت.
شكلت فترة الغيبة في بداياتها منعرجا حادا في مسيرة الشيعة, فكان الفقهاء خارج مظلة الحكم ومتلبسون بوضع تشريعات لكيفية التعاطي مع السلطات بشكلها الغريب عنهم, لكنهم استمروا بنزع المشروعية الدينية عن السلطة برفضهم التنازل لها عن الصلاحيات التي تشكل إمتيازا خاصا بالإمام. إذ يبقي الإمام محور التفاف الشيعة, وبدونه تفقد الأمة مصدرها. يتفق الشيعة والسنة على ضرورة وجود إمام يقيم النظام العام, الا أن الإختلاف يبقى في التمثّل, فالشيعة ترى أن الإمامة مقيّدة منصوصة, بينما هي مطلقة لدى السنة.

بعد خمس سنوات من وقوع الغيبة الكبرى, ظهرت الدولة البويهية الشيعية واستولت على بغداد عاصمة الدولة العباسية, وعمل معز الدولة البويهي على نشر التشيع وتشجيع الشعائر الحسينية وأمر بسب الصحابة. على أثر ذلك نشطت حركة التدوين للمؤلفات الشيعية وظهرت أمهات الكتب المرتبطة بالمذهب الإمامي (الكتب الأربعة). ورغم اعتبار الفقهاء الحكم القائم مسلوب الشرعية, الا أن سلوك الدولة المعتدل مع الفقيه دفعه للخروج من عزلته التقليدية وانتقاله بالتشيع من مهمة المراقبة والإنتظار الى الانغماس تدريجيا في الحياة العامة.

تأصيل شرعي لسلطة بشرية

بإمكاننا القول بأن الفقهاء الأوائل لم يكونوا معنيين بالسلطة كطموح يرومون بلوغه, بل عملوا على إصدار الأحكام الفقهية في كيفية التعاطي مع سلطة غير شرعية. ويمكن فهم هذه المهمة من خلال السؤال الذي فرض نفسه على فقهاء الشيعة في القرنين الرابع والخامس: ما حكم العمل مع السلطان؟

قام الفقهاء بالإعتماد على مجموعة من الروايات التي تضع تقييدات للعمل مع السلطان, منها رسالة الإمام علي الى مالك الأشتر, التي تؤسس لطريقة ممارسة السلطة في ظل سلطان عادل, ورسالة مطوّلة من جعفر الصادق الى رجل من شيعته يدعي عبد الله النجاشي أسندت اليه ولاية الأهواز في ظل الحكم العباسي, والتي تؤسس لطريقة ممارسة السلطة في ظل سلطان جائر. لقد كان بحث عمل السلطان حكرا على نخبة فقهاء الشيعة لخطورته, ومن أوائل المصنفات التي كتبت حول هذا الموضوع, والتي سبقت أبحاث الماوردي وأبو يعلى الفرّاء, كتاب (عمل السلطان) لأبي عبد الله البوشنجي, والثاني (رسالة في عمل السلطان) لأبي الحسن القمي. لكن بسبب فقدان أثر هذه المصنفات, سنستعرض آراء بعض الأعلام الأوائل في عمل السلطان:
  • الشيخ المفيد: عاش في كنف الدولة البويهية, وكان على اتصال بعضد الدولة البويهي, فأجريت الرواتب له ولتلاميذه, وخصص له جامع براثا للوعظ وإقامة الجماعة. في موضوع العمل مع السلطان كتب: "إن التصرف معهم في الأعمال فإنه لا يجوز الا لمن أذن له إمام الزمان" ورغم التقييدات الظاهرة في النص, الّا أن هذا يؤسس لمناخ فقهي إجتهادي جديد يجرؤ على تطوير الأحكام, ويشرّع الباب أمام مبدأ نيابة الفقيه عن الإمام في إعطاء الإجازات. هذه النيابة تتوسع الى أن تشمل موضوعات القضاء والحدود وتنفيذ الأحكام والجهاد. وبهذا أصبح الطريق ممهدا للجيل اللاحق بأن يفرّع على أصول المفيد.
  • الشريف المرتضى: عاش في كنف الدولة السلجوقية, وكانت تربطه برجال الدولة مثل فخر الملك وعميد الدولة روابط الود والتقدير. شهدت رئاسة المرتضى للشيعة جدلا سياسيا نشطا, فقد كان الوزير أبو القاسم المغربي من معارضي عمل الشيعة مع السلطان الغاصب, فكتب المرتضى "الظالم إذا كان متغلبا على البلد, فلا بد لمن هو في بلاده من إظهار تعظيمه وتبجيله والانقياد له على وجه فرض الطاعة" مع استمرار نفي المشروعية عنه.

تقويم واستخلاص

وبنتيجة ما سلف, يقول حميد عنايت في كتابه (الفكر السياسي الإسلامي المعاصر) بأن الشيعة ليست حركة مذهبية صرفة تجنبت تماما الأزمات الخارجية, كما صوّرهم كوربان, بل كما شخصهم دومينيك سردل, من خلال دراسة مواقفهم في ضوء الأحوال الاجتماعية والسياسية المتزامنة معها, إذ أن الخلافات بين الشيعة وسائر المسلمين قد بلغت أدنى حد لها نتيجة للجو السياسي المستقر الذي نتج عن سلوك آل بويه المعتدل. لذلك فقد اعترف الفقهاء بسلطة الدولة مع إضفاء المشروعية على ممارستها وتوصية شيعتهم بمبايعة هذا النوع من الحكام (السلطان الحق العادل), كل هذا مع الحفاظ على اليقين الديني بالإمامة ومشروعيتها الحصرية. وبالنتيجة, لقد أخّر الفقهاء أولوية الإمامة, وتبعا لها أولوية النص, لحساب أولوية الواقع, وتبعا لها أولوية المصلحة.



الفقيه وفتنة الدولة

أدّى سقوط الدولة البويهية وسيطرة السلاجقة (الذين إعتنقوا المذهب الشافعي) الى التوقف شبه التام لإتجاه التجديد الفقهي بسبب مناهضة الشيعة والفتك بهم من قبل طغرل بك وعميد الملك الكندري. تنامت الميول الإنعزالية والإنغلاق على الذات ما مهد الطريق أمام اتجاه سلفي ينزع نحو الإنحباس في حيّز النص, فقد أفتى حمزة السالار, وهو من تلاميذ المفيد, بحرمة صلاة الجمعة بعد سقوط الدولة البويهية. تركّز العمل في هذه المرحلة على رصد النصوص الدينية والشرح أو التعليق على الكتب, فبرز الشيخ الطبرسي, وكان مسلكه إخباريا محضا, بحيث كرّس جهوده في الإبقاء على نقاوة النص الديني وتصفيته من الإجتهادات والتدخلات العقلية.

تجديد الوعي الفقهي

ظل المنحى السلفي يتنامى وسط الشيعة حتى الربع الأخير من القرن السادس الهجري, الى حين ظهور ابن إدريس الحلي, حيث حطّم حاجز التقليد بخروجه على آراء الشيخ الطوسي في الفقه والأصول. فقال "فعلى الأدلّة أعمل, وبها آخذ وأفتي وأدين الله تعالى ... ولا أعرّج الى أخبار الآحاد التي أعتمدها الطوسي, فهل هدم الإسلام الّا هي ...". كان لسقوط الدولة السلجوقية واستقلال الخلافة العباسية في عهد الناصر لدين الله (ذو الميول الشيعية الإمامية) تأثيرا واضحا على نشاط ابن إدريس. لقد انعكست ثورة ابن إدريس, زائدا حركة مدرسة حلب العقلية العرفانية, في اتجاهين: نقلي (مثّله السيد بن طاووس) وتجديدي (مثّله علماء مدرسة الحلّة).

الإتجاه النقلي

رغم أن بن طاووس كان ينتمي في تكوينه الفقهي والعلمي الى المدرسة الأصولية, استنكر ايغال أصحابه في العقلانية, فمصنفاته تشي بميل مفرط نحو النقل, فقد رأى في الآثار النقلية مثالا, كالطبرسي (الإحتجاج) والطبري (دلائل الإمامة) والطرازي (الدعاء والزيارة) واعتمد في بعض كتبه على مصنفات أبو الفتح الكراجكي. يمكن القول بأن بن طاووس كان متنازلا مستسلما أمام النصوص كإملاءات غيبوية, وقد ظهر ذلك في ثلاث محاور:
  1. أخبار المغيبات الواردة عن النبي والأئمة, والتي يتم التعامل معها على أساس وقوعها الحتمي (مثلا خطبة الإمام علي وربطها بسقوط بغداد على يد المغول) بحيث كان الموقف السياسي يبنى على أساس ما روي.
  2. التنجيم: حيث كان بن طاووس يرى بأنه أحد أدوات الكشف عن الحقيقة العلمية وأن "النجوم علامات ودلالات على الحادثات" الى حد أنه أخبر ولده الأكبر بأنه من خلال حسابات فلكية, توصّل عام 649 ه الى أن هذا أوان ظهور المهدي.
  3. الإستخارة: بقراءة سريعة لقصص الإستخارة في حياة بن طاووس, نستطيع أن نكتشف مدى تأثيرها على شؤون حياته بل وحتى في توجيه موقفه السياسي, إذ اعتبرها وسيلة للكشف عن حقائق الأحداث.
سنجد تطبيق ما سبق أثناء فترة حكم الناصر لدين الله والمستنصر بالله العباسيين, القريبين من الشيعة, حيث حاولا مرارا وتكرار منح بن طاووس مناصب حساسة في الدولة, كالإفتاء والوزارة وغيرها, ولكن بائت تلك المحاولات بالفشل, لنفيه مشروعية الدولة العباسية التي لم تخرج عن كونها دولة غصبية. ورغم علاقته الطيبة مع الخلافة, إلا أنه لم يخف تمنياته بزوالها, فمن رسائله لأحد الوزراء "كيف بقي لي قدرة على مكاتبتك ... وأنا مكلف من الله ورسوله والأئمة أن أكره بقائك ...". وقد روى في عدة مواضع استعانته بالإستخارة في موضوع علاقته مع السلطة.
بعد وفاة المستنصر بالله, خلفه ابنه المستعصم بالله, وكان مستضعف الرأي قليل الخبرة, واقع تحت تأثير بطانة السوء (بالأخص قائد الجيش مجاهد الدين الدوادار) رافضا لنصائح وزيره مؤيد الدين بن العلقمي, ما نتج عنه في النهاية سقوط بغداد في يد هولاكو وما تبعها من مجازر بحق سكانها ومحو لتراثها الثقافي. وعلى إثرها أمر هولاكو أن يستفتى العلماء عن أيهما أفضل, السلطان الكافر العادل أو السلطان المسلم الجائر, فكان رأي بن طاووس بتفضيل الكافر العادل. رغم رفضه تولّي نقابة الطالبيين في زمن المستنصر, إلّا أنه قبلها عندما عرضتها عليه الدولة المغولية, وهذا التغيّر جاء مبنيّا على المخزون الغيبي الذي يأخذ وزنا هاما في صوغ وعي وموقف بن طاووس, إذ يذكر رواية عن جعفر الصادق يأتي فيها أن ملك بني العباس سينتهي ويتاح لرجل من نسل أهل البيت أن يتولّى و"يعمل بالهدى ولا يأخذ في حكمه الرشى", فتبيّن له أنه هو هذا الرجل. وكانت هذه لأخبار الغيبية فاتحة لتسوية إشكالية العلاقة بين الفقيه والدولة, وبالتالي الاسترسال في بناء علاقة حميمية بالدولة المغولية مستندة الى نصوص يعتقد الفقيه بأنها كفيلة برفع الحرج الشرعي.

حصل سقوط بغداد على يد هولاكو في فترة حكم أخيه للإمبرطورية المغولية, منكو خان, الذي كان ضابطا للإيقاع في العائلة الجنكيزية والجيش المنغولي. إلا أن وفاته فتحت الباب أمام نزاعات داخلية كبيرة, بالأخص في وجه هولاكو, إذ أنهم كانوا يرون أنه يؤسس لدولة مستقلة, لا لتوسعة رقعة سلطان المغول, وبهذا انفصل هولاكو وأسس الايلخانية وعاصمتها تبريز. وكانت خسارة المغول أمام المماليك في معركة عين جالوت سببا إضافيا لزيادة عدم الاستقرار الداخلي, إضافة الى نظرة الشعوب (المسلمة) التي يسيطر عليها المغول, بأن حكامهم أجانب وكفار, ما ينزع المشروعية عنهم. فلجأ الإيلخان السابع غازان الى اعتناق الإسلام على المذهب السني الحنفي, وسعى الى مواجهة المماليك الذين استجلبوا الخليفة العباسي الى القاهرة (شرعية الخلافة) واستعانوا بالفقهاء والقضاة لنزع الشرعية عن المغول, حيث برز دور إبن تيمية في ذلك من خلال التشكيك في صدق إسلام المغول واعتبارهم قابعين في الكفر. بعدما تبيّن للمغول عدم تكافؤ المعركة مع المماليك في مسألة شرعية الحكم, لجأ الإيلخان أليجاتو, أخ غازان, للتحوّل الى التشيع, بعد أن أقنعه أحد حاشيته (الأمير طرمطار) بأن "الشيعة تقول أن الملك بعد السلطان يصير الى ولده, والسنة تقول أنه ينتقل الى الأمراء". إن التشيع المغولي قام على أساس عدد من المصالح السياسية, إذ أن باعتناقهم للمذهب يمكنهم الادعاء بأنهم ينفذون مشيئة الله وينتصرون للحق المسلوب لأهل البيت. فجرت عملية تقريب واسعة النطاق بين الأيديولوجيا المغولية والعقيدة الشيعية, منها اعتبار الخاقان مركز العالم كله ووكيل السماء, وهذه ليست سوى تنضيدة مغولية للعقيدة الشيعية في الإمام المهدي. والأهم من كل ذلك, لقد أصبح بإمكان المغول بعد تشيعهم التشكيك في مشروعية كل الحكومات الإسلامية, من الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل, الى الأمويين والعباسيين. لقد بات بوسع الشيعي أن يرى في المغول الأمل الجديد في استرجاع حق أهل البيت بناء على النقاط التالية:
  • أن الأيلخانيين ليسوا متحدرين من الخط الإغتصابي المناهض لأهل البيت
  • أنهم جاءوا لتحقيق الحلم الشيعي بالثأر لأهل البيت وبناء الدولة الممهدة لظهور الإمام المهدي, كما تهيأ ذلك لإبن طاووس
  • ورود خبرهم على لسان الإمام علي, وقد اشتمل الخبر على أوصافهم ونتائج هجومهم على بغداد, والتحذير من إعتراض طريقهم
وعلى الجانب الأيلخاني, كان للوزير رشيد الدين فضل الله, مؤرخ الأسرة الأيلخانية, الدور الأبرز في استيعاب الأفكار الشيعية الإمامية واستحضارها, وإدارة عملية التحول من التسنن الى التشيّع. إلا أن الخاقان أبي سعيد إبن ألجايتو خشي من تعاظم نفوذه, فأمر بقتله, وألغى المذهب الشيعي وأعلن السنة مذهبا رسميا للدولة.

الإتجاه التجديدي

بعد تحول المغول الى التشيع, توافرت الفرصة للإتجاه التجديدي لاستئناف نشاطه بعد تشجيع الخواجه نصير الدين الطوسي على المباحثات الكلامية في مدرسة الحلة. وبنتيجة ذلك نشأت أكبر مدرسة أصولية في العالم الشيعي في القرن السابع على يد المحقق الحلي, الذي صنّف كتابه الفقهي المعروف (شرائع الإسلام) وفي الأصول (معارج الوصول الى علم الأصول) وتبعه تلميذه العلامة الحلي بتصنيف (تهذيب الوصول الى علم الأصول). وقد كان العلامة الحلي الأبرز ممن طرق مسألة التقليد, إذ أن دحض أدلة علماء الشيعة الحلبيين الذين قالوا بعدم جواز التقليد لا في أصول الدين ولا في فروعه, بل يجب الإجتهاد في ذلك على كل مكلف, وبالتالي إخراج الفقيه من دائرة التكليف الشرعي. وقد لعب العلامة الحلي دورا في إعطاء شرعية سياسية للسلطة المغولية, وكان ذلك بمثابة قطع صريح مع الوعي الإنتظاري الشيعي. إلّا أنه تمسّك بمبدأ الإمامة الشرعية المنصوصة المشروطة بالعصمة كما درج على تدوينه فقهاء الشيعة المتقدمون. إن الفقيه الشيعي في هذه المرحلة ينطلق في شراكته بالسلطة من مشروعية الشراكة لا من مشروعية السلطة ذاتها, والتي لا تتحقق الا في حال حضور الإمام, وهذه ما يظهر من مشاركة الخواجة والعلقمي وآل طاووس في الدولة المغولية قبل 30 عاما من اسلامها, أي فعليا كانت المشاركة في دولة ملحدة.

الدولة السربدارية والشهيد الأول

بموت الخاقان أبي سعيد, تمكنت جماعات إحتجاجية شعبية كانوا يعرفون بالسربداريون (أي أصحاب الرؤوس المرفوعة على المشانق) من تأسيس دولة عاصمتها سبزاور, بعد سنوات من التحركات ابتدأها الشيخ خليفة المازندراني, وبعد قتله حمل رايته تلميذه حسن الجوري, الذي أعتقل من قبل حاكم خراسان, ثم ظهور أمين الدين فضل الله (مؤسس الدولة السربدارية) في باشتين الذي سيطر على سبزاور ثم قتل على يد أخيه وجيه الدين مسعود الذي سيطر على خراسان ثم قتل وخلفه شمس الدين علي بن المؤيد. وجد إبن المؤيد في تمذهب الدولة وسيلة الى تحقيق إستقرارها وازدهارها, فإتصل بعلماء جبل عامل (لشهرتها وبروزها في ذلك الوقت) متجاوزا مدارس العراق وإيران, وكان اتصاله مع الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني ومحاولته استقدامه الى إيران سببا في كتابة الشهيد لرسالته المشهورة (اللمعة الدمشقية) لتكون دستورا يحقق لعلي بن المؤيد غرضه. ربما يرجع السبب الرئيسي لرفض الشهيد الأول دعوة ابن المؤيد الى سبزاور هو مناهضة الدولة السربدارية للإجتهاد, بينما كان الشهيد من الجرأة والتجديد بأن طرح فكرة النيابة العامة للفقيه, لا في ميدان القضاء والحدود فحسب, بل في صلاة الجمعة أيضا (ببعدها السياسي).



الدولة ونيابة الفقيه

تكوين الدولة الصفوية

كرد فعل على التجربة المدمرة لحكم المغول, انكفئ العامة الى التصوف واتّباع شيوخ الطريقة, وكان من بين هؤلاء صفي الدين الأردبيلي الذي كان له شعبية واسعة واستغل ذلك في ولوج السياسة وتاليا العسكرية. نجح ابنه إسماعيل في بناء دولة ما بين خليج البصرة ونهر الفرات وأفغانستان, وكان إعلان تشيّع الدولة هو الحلّ لمأزق الشرعية في مقابل تسنن العثمانيين. فلجأ الى 120 عالما من جبل عامل والكرك والقطيف لنشر التشيع في بلاده التي كانت تعتنق المذهب الشافعي. قدّم إسماعيل نفسه على أنه من سلالة الإمام الكاظم, ونشر الفرمانات والروايات الغيبوية التي تدعّم سلطته الجامعة للبعدين الدينية والدنيوية, واقتصر دور العلماء الذين استقدمهم على نشر التشيع والأمور الحسبية. ولتعزيز سلطته, قام بإعمار المشاهد والضرائح, واستحدث أو أعاد إحياء مسائل سطحية مثل اضطهاد السنة وسب أعداء الشيعة والمبالغة في المراسم العاشورائية, كأدوات للإثارة والتعبئة, ما أفقد التشيع صورته الأصلية وأضاف وشاحا من التعصب والخرافية على المذهب بهدف تحصين الدولة. هذا الخليط يؤول الى ترويض التشيّع وابتزازه عبر سلبه من مضمونه الحقيقي ويحيله الى أداة تعبوية محضة, أو بحسب ما قال علي شريعتي "تشيّع المصلحة (الصفوي) لا تشيّع الحقيقة (العلوي)".

سعى الصفويون لتعزيز الشرعية الدينية بالإستعاضة عن رفد الدولة برجال المذهب الشيعي, بخيار بعث الرموز الشيعية التاريخية واضفاء وشاح إيراني عليها, بحيث وجّه الشاه عباس عناية خاصة لمقام الإمام الرضا بما يجعله مزارا جذابا حتى لا يرحل الإيرانيون الى مكة او الى المزارات في العراق. كان وقوع العراق الحاضن لستة من أئمة أهل البيت, خارج حدود السلطان الصفوي بمثابة عقدة تثير نزعة العدوان وشهوة السيطرة, وظلت هذه العقدة تحرك طيلة تاريخ الصفويين الجيوش نحو السيطرة على العراق. وبينما كان تركيز العثمانيين لاكتساب المشروعية مرتكزا على رعاية المقدسات الإسلامية في الحجاز, توضحت الترسيمة التي تعكس حقيقة التفكير الاستراتيجي لدى كل من الصفويين والعثمانيين. كانت السيطرة على العراق تتأرجح بين الطرفين, فحين سيطرة الصفويين كانوا ينزعون الى اضطهاد السنة وهدم مزاراتهم (مثلا ضريح ابي حنيفة وعبد القادر الجيلاني) بينما كان العثمانيون يسعون الى طمأنة جميع الأطراف لحفظ الاستقرار, باستثناء مرحلة مراد الرابع التي قام خلالها بممارسة كراهية شديدة ضد الشيعة. انتهت الجولات بعد زوال الحكم الصفوي وقيام الدولة الأفشرية (إحدى قبائل القزلباش التي ساعدت على تأسيس الدولة الصفوية).
بعد وفاة الشاه إسماعيل, إفتقد خليفته طهماسب لدور رئيس الدولة والدين, فاستعان لإنشاء إكليروس شيعي بالشيخ نور الدين علي الكركي من جبل عامل, الذي لبّى دعوة الشاه وغادر النجف الى أصفهان وحصل على لقب نائب الإمام وشيخ الإسلام. نتج عن هذا الأمر معارضة شديدة من مدرسة النجف برزت مع الشيخ إبراهيم القطيفي, فنشأ برز تيار معارض لنشوء دولة زمنية تدعي تطبيق الشريعة وفقا لمذهب الإمامية. وبرز على الطرف الآخر تيار عدّل من النظرة السلبية المطلقة الى السياسة باتجاه انخراط حذر وأكثر إيجابية, فظهر كتاب (روضة الأنوار) لمحمد باقر السبزواري, الذي حمل من الدلالات السياسية ما يكفي لأن يعتبر أول قطع مع الإجماع الشيعي على غصبية السلطة في عصر الغيبة ويؤكد بوضوح غير مسبوق أحقية وشرعية سلطة غير الإمام. فأظهر شجاعة فائقة في معالجته للمسائل الحرجة في الفقه السلطاني الشيعي, من خلال عدم اشتراط السلطان العادل (الإمام) في إقامة صلاة الجمعة, ومشروعية التعامل مع السلطان الجائر في مسألة الخراج والمقاسمة والزكاة والتوقف عن ممارسة التقية. يمثل السبزواري أول فقيه مجدد في الفقه السياسي الشيعي, إذ إنه يحيل التشيّع من إطار ماضوي ساكن الى إطار دينامي يمتثل لضرورات الوقت مع تسليمه بالمبادئ الكبرى كالإمامة النصية والإنتظار.

مع وصول الشاه عباس للحكم, وصلت العلاقة بين الخط الأصولي والدولة الصفوية الى طريق مسدود, فأمام النفوذ المتعاظم للعلماء الأصوليين في مجال السياسة الداخلية والمجتمع, نزع الشاه عباس الى استبدال شبكة التحالفات التقليدية بتوطيد تحالف مع الغرب, وتصفية الوجود السياسي للخط الأصولي وتشجيع الخط الإخباري على احتلال مواقعه. فإنطلق الشيخ الاسترابادي من العراق للتشكيك في مصداقية الخط الأصولي وتراثه الفقهي الإجتهادي فجرف تحصينات الأصوليين في إيران, فتضخّم الصراع لحد استدعى تصنيف الكتب لتسوية المشكلة بين الطرفين.

شرعية السلطة

عبر ملاحظة التبدلات التي شهدها موقع الفقيه في الحقل السلطاني, يمكن استحضار ثلاث نماذج بارزة, العلامة الحلي والجايتو (دور الفقيه منحصر في الحيز الإرشادي التبليغي), الشهيد الأول وابن المؤيد (أخذ الفقيه دور الإفتاء), الكركي وطهماسب (احتل الفقيه موقع النيابة العامة عن الإمام والمشرّع للسلطة). لقد أظهرت هذه النماذج مرونة التيار الأصولي في التعامل مع الواقع من خلال توسله بالوسائط العقلية التي تتيح له اسقاط وعيه الخاص على النص الديني, وبالتالي انتاج وتطوير أحكام وعارف دينية. بينما تمسك الإتجاه الإخباري بحرفية النص ومركزيته, محتفظا بذاكرة فقهية تاريخية ساكنة, تتنشط في حال انكسار منافسه الأصولي.

لقد ظهر في الأجيال اللاحقة من الفقهاء تحت السلطة الصفوية طبقة من فقهاء البلاط الذين تماهوا كليا مع الحكم, وخصوصا في عهد الشاه عباس, الذي امتهنهم لخدمة سياسته. وبالرغم من ذلك, ظل العديد من الفقهاء الأصوليين منصرفين عن السلطة الصفوية, وأبرزهم زين الدين الجبعي (الشهيد الثاني) والمقدّس الأردبيلي, اللذان قالا بالنيابة العامّة للفقيه, إلّا أنهما رفضا الإنضواء تحت سلطة الصفويين, وفسّر الشهيد مطهّري ذلك برغبة الفقيهين في الحفاظ على مناطقهما (النجف للأردبيلي وجبل عامل للشهيد الثاني) كحواضر علمية حوزوية مواجهة لأصفهان.

العلماء: رمزية دينية وسياسية

إن العلماء والفقهاء تحولوا بالإتكال على طائفة النصوص الحاثة على التسليم لأوامرهم بوصفهم حجج الدين, الى فئة كبيرة تزاول دورها الدعوي وتملي على العامة طاعة صلبة. إلا أن الاهتمام الشيعي بعلمائهم يعتبر أكثر خصوصية لإرتباطها ببنية الإمامة من خلال القول بالنيابة والمرجعية التي تسمح للفقيه بمزاولة صلاحيات الإمام في عصر الغيبة. فرغم اعتزال بعض الفقهاء السياسة وابتعادهم عن مخالطة الحاكم, الا أنهم كانوا يتمتعون بحيثية تمكنهم من التوسط في تسوية مشكلات بعض الناس, أو كما في حالة السيد محمد القصير, تسوية الخلافات داخل السلطة (فتنة خان خيوق في فترة الدولة القاجارية). بينما انخرط آخرون أكثر مع السلطة, مثل الميرزا رفيع الدين محمد والآقا حسين الخونساري, حيث تسنّما مناصب رفيعة بل وتولّوا السلطة نيابة عن السلطان في غيابه, وشاركوا في معاركه (معركة جالدران) وعبئوا الناس للجهاد بطلب منه (طلب فتح علي شاه من السيد محمد الطباطبائي في الحرب مع الروس). إن قوة العلماء الشيعة تأخذ مسارا تصاعديا, حتى في مراحل المواجهة مع السلطة, لأنها تستند بدرجة كبيرة على علاقتها بالعامّة من خلال الإجتهاد وتحقق استقلاليتها ومناعتها من خلال الخمس.



التجاذب بين الفقيه والدولة

ثالوث التصوّف والأخبار والصفويّة

إن تحوّل الفقيه خلال فترة حكم الشاه طهماسب من ناقل للنص الى صانع للنص (مجتهد) أبرز قدرته على الإحاطة بالسلطتين الروحية والزمنية في آن, ما يهدد السلطة المركزية. هذا ما أدركه الشاه عباس, فأخذ على عاتقه فك الإرتباط مع الفقهاء وتهميشهم سياسيا من خلال استقطاب ثنائي تجلّى في تيار صوفي/فلسفي وتيار إخباري. أدى هذا التضييق الى استقالة الشيخ حسين عبد الصمد الجبعي من منصب شيخ الإسلام وتبعه إبنه الشيخ البهائي (كانا قد قدما من جبل عامل إثر شهادة أستاذهم الشهيد الثاني) وانصرفا الى التصوّف والزهد.

بنتيجة هذا الفراغ, نشطت حركة فلسفية مزجت بين التشيع والتصوف والفلسفة المشائية والإشراق (بتشجيع من السلطة الصفوية) بجهود من الميرداماد والفيض الكاشاني من خلال إحياء تراث أبي حامد الغزالي وابن عربي والفلسفة اليونانية, فكتب الكاشاني (المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء) بناء على (احياء علوم الدين) للغزالي و(رسالة الخلوة) لإبن عربي. وظهر ملا صدر الدين الشيرازي, فحاول المزج بين المشائية والإشراقية والإسلام, وطعن على الفقهاء الأصوليين لانخراطهم في سياسات الدولة الصفوية وتركيزهم على الفقه وتهاونهم في الحكمة والفلسفة فقال فيهم "أكثرهم أشقى من الجهلاء". انتشرت تجمعات الصوفيين في انحاء ايران, وكانت تدعى (خانقاه), ووصفهم نعمة الله الجزائري "قد رأينا منهم في شيراز وقائع غريبة وأطوار عجيبة لا توافق الا مذاهب الملاحدة والزنادقة", ونتج عن هذا العزلة كبحا للفعالية السياسية للفقيه.

الى جانب ما سبق, نشط التيار الإخباري على يد الاسترابادي, وكان أكثر فعالية في كسر شوكة التيار الأصولي لتحصّنه بالمنابع الأصلية للتشيّع وابتعاده عن هوى العقل, فاعتبرت أعمال الأصوليين منذ ابن الجنيد الى الشهيد الثاني نسجا على منوال الحنفية والشافعية. وكان من تصنيفات تلك المرحلة (وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة) للحر العاملي و(بحار الأنوار) التي جمع فيها المجلسي كل ما وقع عليه من أحاديث دون التفات الى صحتها أو سقمها, وذلك بهدف قطع الطريق امام الحركة الفلسفية العقلية. نجح التيار الإخباري في تقويض الخط الأصولي بوصفه خطا ابتداعيا, وسعت السلطة الصفوية الى استتباع فقهاء الإخباريين من خلال توليتهم مشيخة الإسلام. رغم كراهية الإخباريين لمشاركة السلطة, إلا أنهم استغلوا مراكزهم في تحقيق أهدافهم, فمثلا أفاد المجلسي من ضعف الشاه حسين, وصارت له الكلمة الفصل في الدولة, فاستطاع اجلاء الصوفية عن أصفهان ومنع إقامة الأذكار وحرم ممارسة كل تقليد يتصل بالتصوّف.

أثّر ضعف الدولة الصفوية وانهيارها على حركة التجديد الديني وسط الشيعة, فبعد غزو الأفغان لإيران, تلاهم الروس ومن ثم العثمانيون. أدى ذلك الى أجواء سلبية وحالة إحباط أدت الى ركود قاتل وسيطرة تامة للنزعة الإخبارية.



ولاية الفقيه في العهد القاجاري

بعد تفكك الدولة الصفوية, انبرى نادر شاه وأسس الدولة الإفشارية, وبعد موته سيطر كريم خان زند وأسس الدولة الزندية, ولم يطل بقاء هذه الدولة, حيث ظهر آقا محمد خان وأسس الدولة القاجارية, ورغم أصولهم السنيّة, إلا أن القاجاريين ورثوا عن الصفويين تمذهب الدولة لتحصيل الشرعية وتأمين الاستقرار. وخلال هذه الفترة, أدت حالة عدم الاستقرار الى مزيد من انتشار التصوف (الملا النراقي والشيخ الإحسائي) والنزعة الإخبارية (الشيخ يوسف البحراني), الى أن ظهرت مدرسة كربلاء بريادة الشيخ محمد باقر البهبهاني, الذي شن هجوما عنيفا على الإخباريين الى درجة تحريم الصلاة خلف البحراني. فألّف (الفوائد الحائرية) في تقويض أدلة الاسترابادي على نقد المنحى العقلاني. إن تبلور الرأي القائل بنيابة العلماء عن الإمام في بعض شؤون الإدارة والحكم (بنتيجة التجربة الصفوية) وأن وجود الدولة بمنأى عن سلطانهم مخالف للدين والعقيدة, نبّه القاجاريين الى ضرورة تشجيع المنحى القريب الى نزعتهم التسلطية وترسيخ الفكر الانعزالي الصوفي, كما ظهر في النشاط الفعّال لتصنيفات الشيخ الإحسائي الذي التزم خطا صوفيا فلسفيا متطرفا, فأصبح من دعاة الكشفية والمشاهدة ووحدة الوجود والإشراق والقول بالتفويض, ما أدى الى شيوع تكفيره بين علماء العراق وإيران, وبالتالي الأفول التدريجي لهذه الجبهة. دخل بعدها الإخباريون (بقيادة الميرزا الاخباري) والأصوليون (بقيادة جعفر كاشف الغطاء) في صراع محموم لكسب جانب السلطة القاجارية الى درجة التشنيع, فصنف الميرزا – قتل فيما بعد – كتاب (الصيحة بالحق على من الحد وتزندق) ورد عليه كاشف الغطاء (كشف الغطاء عن معائب ميرزا محمد عدو العلماء), ولكون الأصوليين أكثر انتشارا بين العامة, رجحت كفتهم رغم محاولات السلطة تحييدهم وتشجيع الإخباريين, فأجاز كاشف الغطاء لفتح علي شاه بالحكم والجهاد والانفاق على الحرب من خراج الأرض والزكاة, وبرز السيد محمد المجاهد, صاحب فتوى الجهاد ضد الروس, حيث قدم من كربلاء لإقناع فتح علي شاه بوجوب الجهاد, ولما تباطئ الشاه قام السيد بحملات تعبئة وسط أهالي أذربيجان ونظم حرب مقاومة ضد الروس ما أجبر الشاه على مسايرة المد الشعبي, فقال للموفد الروسي "إنني أعلم أن مصلحة الدولة هي في السلم وفي مصالحتكم, ولكن مصلحتنا الوطنية تضطرنا لتأييد زعماء الدين والمقاومة التي نظموها". ورغم محاولات الشاه لاحتواء هذا التأثير, الى أن النتيجة انتهت بهزيمة ايران وشرعنة احتلال روسيا لخمس مقاطعات إيرانية. حاول نادر شاه احياء المذهب السني في بلاد فارس, ما دفع لإنفصال كبار العلماء الشيعة عن السلطة وتوجههم الى النجف وكربلاء, ما أدى الى أفول نجم المؤسسة الدينية الرسمية في حواضر أصفهان وقم وطهران.

لقد دشنت هذه الحادثة مرحلة فقهية جديدة تميزت بانحياز الفقيه الى الواقع, وتمظهرت بتأسيس المولى أحمد النراقي لأطروحة ولاية الفقيه التي ظهرت لأول مرة في كتابه (عوائد الأيام), فخلص النراقي الى "إن كلّيّة ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران: كل ما كان للنبي والإمام ... إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما ... كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم ودنياهم". إن النراقي هو أول فقيه شيعي يؤصل لولاية الفقيه المطلقة, ويدشّن مرجعية دينية جديدة تعوض غياب الامام المعصوم. هذه الأطروحة أسست لأول انشعاب داخل المدرسة الأصولية, حيث ستنشق الى خطين فقهيين رئيسيين, ولاية الفقيه المطلقة, وولاية الفقيه المقيدة. وقد عضد الشيخ النجفي (صاحب الجواهر) رأي النراقي, في مقابل اعتراض الشيخ مرتضى الأنصاري في (المكاسب) الذي قطع طريق البحث في ولاية الفقيه المطلقة, واستعاض عنها بولاية جزئية.

التنباك: إختبار القوة بين الفقيه والسلطان

إن تحوّل الفقه الإمامي من الشراكة الاضطرارية في السلطة الى الانخراط فيها بحماسة غير مألوفة تواكبت مع تأويلات للتراث الغيبي يوجب على العامي تسليم الخمس والزكاة والصدقات والنذورات وغيرها للفقيه, ما حقق استقلالا ماليا وبالتالي سيادة أكبر وقوة سياسية تضاهي قوة الدولة. هذا الإستقلال أدى الى إفراغ السلطة من شرعيتها, ما دفع القاجاريين للتوسل بالحلف الخارجي للتعويض عن هذه الخسارة, فكانت تجلياته في الانفتاح على أوروبا ومنحها الامتيازات ما نتج عنه مصادرة القدرة والثروة في ايران, مضافا اليه تفاقم الاستبداد الداخلي.

قام فتح ناصر الدين شاه بربط ايران بحركة الاستعمار الأوروبي عبر منحهم امتيازات اقتصادية, كان أبرزها اتفاقية احتكار شركة ماجور تالبوت البريطانية لمحصول التبغ الإيراني لمدة 50 عاما. نتج عن هذا تفجر موجات الغضب الشعبي, وبرز دور السيد جمال الدين الأفغاني في تنشيط النضالية السياسية لدى علماء الشيعة في ايران من خلال مجلة (ضياء الخافقين) وتواصل مع الميرزا محمد حسن الشيرازي – المبعد من النجف الى سامراء – الذي أصدر فتوى جاء فيها "إن استعمال التنباك والتتن اليوم بأي نحو كان, يعد في حكم محاربة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه". كانت هذه اول مواجهة بين الفقيه والسلطان منذ عصر الغيبة, ونتج عنها قيام الإيرانيين بإحراق ما بحوزتهم من التبغ ومحلات بيعها وأغلقت حوانيت تدخينها إلى درجة إمتناع زوجة ناصر الدين شاه عن تجهيز التنباك لزوجها وقالت "إن الذي أحلّك عليّ حرّم استعمال التبغ". دفعت هذه الأحداث الشاه الى محاولة إقناع الميرزا الأشتياني, أحد كبار علماء طهران, بإصدار فتوى مضادة أو مغادرة طهران. جاء رد الإشتياني سلبيا وتجهّز للمغادرة, لكن عندما علم أهالي طهران بنفي الإشتياني خرجوا في هيجان شعبي عارم وأصاب المدينة الشلل التام, فحاول الشاه إقناعه بإصدار الفتوى فجاء الرد "إنني لا أستطيع مخالفة الحكم الصادر ولا أستطيع شق عصى المسلمين" فاضطر الشاه للعدول عن قرار نفي الإشتياني. بعد خمس سنوات, اغتيل ناصر الدين شاه على يد أحد أنصار جمال الدين الأفغاني, وتسلم الشاه مظفر الدين الحكم مكان أبيه.

يأتي السؤال, لماذا اكتفى الشيرازي بالنضال على جبهة التنباك ولم يتناول شرعية السلطة القاجارية؟ بعض الأجوبة المحتملة, غياب النظرية السياسية الشيعية في عصر الغيبة, غياب النموذج التاريخي والتحذير من الفتنة, التزام الشيرازي رأي استاذه الأنصاري في الولاية الجزئية للفقيه, قضية التنباك وقعت في نفس عام وفاة الشيرازي فلم يكن هناك وقت لتتطور الى حدود أعلى.



المواجهة بين الفقيه والدولة

الحركة الدستورية: جدلية الوضعي والشرعي

إن تنامي النزعة القاجارية لجهة مركزة السلطة والتوسل بعقيدة التحديث كبنيتين بديلتين لترميم الشرعية السياسية أحيى التقليد العسكريتاري في ظل متغيرين داخليين: تسيّس حركة الشارع الإيراني وبروز علماء أكثر إعدادا وتأهيلا للفعل السياسي الإحتجاجي. ساهم إخفاق التحديث في عهد ناصر الدين شاه الى إحالة إيران الى سوق إستهلاك للبضائع الأجنبية ووقوعها عرضة للتدخلات الروسية عن طريق القروض والإمتيازات الجمركية, ما ساهم في تهاوي البنى الاقتصادية والسياسية الوطنيّة, مما أثار غضب تجار البازار, وهي طبقة مهمّة في الحياة الاجتماعية والسياسية. إثر رفض بعض التجار للأوامر الحكومية, تعرّضوا للجلد بالسياط, وتكرر الموضوع خلال فترة حكم مظفر الدين شاه, ما دفع بعدد كبير من الناس الى (الإلتجاء) في مرقد الشاه عبد العظيم, وانضم لهم السيد محمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني, مطالبين بتأسيس ديوان للعدالة وإقالة عين الدولة (رئيس الوزراء) من منصبه. رضخ الشاه للمحتجين وتعهد بتنفيذ المطالب, الا أن عين الدولة كانت له الكلمة, فسعى الى البطش بالمعارضين وحاول اعتقال السيد الطباطبائي فخرج الناس لمنعهم وقتل طالب علوم دينية, وفي تشييعه قتل الجنود 15 من المشيعين, فبات الوضع الداخلي على وشك الإنفجار خاصة بعد مغادرة كثير من المجتهدين طهران الى قم وتهديدهم للشاه بالمغادرة الى العراق ما لم يرضخ لمطالب الشعب واستجاب تجار البازار لهذه الخطوة فأغلقوا محالّهم. إضطر الشاه للإذعان لمطالب الشعب, فأقال عين الدولة وأعلان (فرمان مشروطيت) تمهيدا لإجراء انتخابات (مجلس الشورى المللي). ألف المجلس لجنة لصياغة الدستور نسجت فيه على منوال الدستور البلجيكي, وأقرت تمذهب الدولة بالمذهب الجعفري ونصت المادة الثانية على عدم إجازة سن أي قانون يعارض الشريعة الإسلامية وتخويل خمس مجتهدين بدراسة اللوائح التشريعية والمصادقة عليها أو رفضها. وكان نائب رئيس مجلس الشورى السيد عبد الحسين الشيرازي قد طالب بأن يتسلم رئاسة المجلس رجل حائز على مرتبة الإجتهاد كضمان لحمايته من الإنحراف عن خط الإسلام. ما لبثت أن أجهضت الإنطلاقة الأولى للحياة الديمقراطية, فبعد موت مظفر الدين شاه ورثه ابنه محمد علي, وكان لديه نزعة استبدادية ورفضا لإقتسام السلطة مع المجلس, وبتأثير من الروس, الذين أثاروا لديه الشكوك بأن الحركة الدستورية هي صنيعة بريطانية, كون المطالب استعلنت نفسها من داخل السفارة البريطانية (حيث تواجد بعض تجار البازار). حل الشاه المجلس, وافتعل احداثا تخريبية وعمليات إعدام لأنصار حركة المشروطة (لأنها تدعو الى أن مواد الدستور هي الشروط التي يجب ان يلتزم بها الشاه في حكم رعيته) مستعينا ببعض فتاوى المجتهدين بحكم ردّة دعاة المشروطة, كالشيخ فضل الله نوري, بحجّة أن "إستخدام هؤلاء كلمات مغرية كالعدالة والشورى والحرية يريدون خداع المسلمين وجذبهم للإلحاد ... وترويج الفساد وإباحة المنكرات وشرب الخمر ...". وبالمقابل, صدرت فتوى من علماء النجف, الآخوند محمد كاظم الخراساني والشيخ عبد الله المازندراني وميرزا خليل بما نصه "ليعلم الجميع أن الموافقة ومساعدة كل مخالف أساس المشروطة القويم أيا كان, والتعرض بالمسلمين المحامين لذلك الأساس هو محاربة لإمام العصر. وعليه يلزم التحرز وعدم الإقدام على مضارة المشروطة المحقة". ظهرت حركة مضادة لحركة الدستور داخل الوسط الحوزوي بقيادة السيد محمد كاظم اليزدي, الذي وقف الى جانب الحكومة في سبيل الدفاع عن المستبدة (الحركة المضادة للمشروطة). انتقل الخلاف بين المشروطة والمستبدة من الإطار الحوزوي الى الإطار الاجتماعي في العراق وإيران, فوصم بعض اتباع المستبدة الخرساني بالكفر واعتبروا الصلاة خلفه باطلة, وكانت ردود فريق المشروطة بنفس القوة, إذ قام السيد صالح الحلي بهجاء السيد اليزدي بأبيات منها:

"فوالله ما أدري غدا في جهنّم       أيزديّها أشقى الورى أو يزيدها"

نشاط المشروطة

كشفت قصة المشروطة عن التأهيل السياسي الممتاز والأداء الفعال للفقيه, كما كشفت عن موقع النجف كمركز قيادة للنشاطات السياسية الاحتجاجية في إيران. فبعد نجاح النجف في قضية التنباك, صار رجال المشروطة يتوسلون بكبار المجتهدين لكسب الغطاء الشرعي. أدى الاصطفاف الشعبي الداعم للمشروطة الى نقمة لدى محمد علي شاه, فزادت حدة اضطهاد مناصري الحركة من اعتقال وإعدام (مثلا إعدام الميرزا نصر الله الاصفهاني) وألغى الدستور وأبقى مجلس الشورى مغلقا. أتى رد الخراساني من خلال رسالة الى الشاه هاجم فيها مشروعية السلطة وتوجّه بفتوى الى الجماهير جاء فيها "إنني أعلن حكم الله لجميع الشعب الإيراني أن مسؤولية دفع هذا السفاك الجبار والدفاع عن نفوس وأعراض وأموال المسلمين تعد اليوم من أول الواجبات" بتأييد من علماء دين كبار في العراق وإيران. لقد بنى الخراساني على موقف أستاذه الأنصاري في موضوع ولاية الفقيه وطوّر عليه بأن انتقل بالموقف من السلطة الى النقض في شرعية الحاكم, لكن لم يتجاوزها الى شرعية النظام ككل. لقد كان نشاط الخراساني متماهيا مع نهضة إصلاحية في المشرق الإسلامي كان من روادها الأفغاني والكواكبي وغيرهم, كانت هذه النهضة تهدف الى التحرير من الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي. فخلال مرحلة مقاومة الاستبداد القاجاري, أصدر الخراساني مع مجموعة من كبار علماء النجف نداء الى المسلمين لمقاومة الغزو الإيطالي لليبيا. لقد كان الخراساني منفتحا على التجارب الدستورية الحديثة, لا الى إقامة سلطة رجال الدين, وهذا ظهر من دعمه للمشروطة في إيران وفي تركيا أيضا عبر دعمهم للدستور العثماني في عهد السلطان محمد رشاد.

في هذه المرحلة من نشاط الحركة الدستورية, ظهر النقاش بين فقهاء الشرعية ورجال القانون الوضعي, فكانت المدرسة الأصولية هي الأقدر على الدخول في المحاجات المنطقية والجدل القانوني, حيث نجحوا في التوصل الى تسوية تطال حقل المواطنة. هذه التسوية ووجهت بالمعارضة من كثير من العلماء, منهم فضل الله النوري الذي رفض حتى الحقوق الخاصة بالمواطنة إذ أن المعيار الإلهي يقوم على أساس نفي المساواة بين المؤمن والكافر, وبين الرجل والمرأة, وبين السيد والعبد, وبالتالي فإن هذه المزاوجة القانونية غير شرعية.

سقوط الشاه

بنتيجة فتوى الأخوند الخراساني, زحفت القبائل البختيارية المساندة لحركة المشروطة الى طهران, وانضمت اليها قوات شعبية من رشت, فهرب الشاه الى المفوضية الروسية في طهران, فأعلنت القوات الشعبية عزل محمد علي شاه وتعيين ابنه أحمد (12 عاما) ملكا على إيران. لم يكن الشاه مؤهلا للحكم, فانفلت الوضع وأصبحت خزينة الدولة عرضة للنهب من القبائل البختيارية التي اقامت شبه دولة في أصفهان وفرضت ضرائب باهظة على الناس, وأصبح مجلس الشورى مؤسسة هامشية فارغة. لم يشهد الخراساني هذه الفوضى إذ مات ليلة النفير العام للجهاد ضد الروس في 12 كانون أول 1911.

النائيني: محاولة تأصيل شرعي لسلطة مدنية

تقدم الشيخ محمد حسين النائيني برسالة (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) تعتبر أول مدونة سياسية في التاريخ الشيعي لا تندرج ضمن الطائفة التقليدية لتصنيفات الفقهاء, فهي صياغة توفيقية لأيديولوجيا السلطة, عبر السعي الى قولبة المفاهيم الدينية في أوعية سياسية حديثة. لقد كان الفقهاء الذين درسوا في سامراء (أسس المدرسة الميرزا الشيرازي) – ومن ضمنهم النائيني – مهتمين بالفلسفة, وكان بحثهم عن النظام الأفضل عن طريق العقل (تحقيق السعادة للبشر) هو طريقهم الى الحياة السياسية, فوضع النائيني تصورا للسلطة في إطارها الإنساني العام منطلقا من أصل تسالمت عليه جميع الملل "إن استقامة النظام العام, وانتظام حياة البشر, مرهون بوجود الدولة ذات السلطة القادرة على فرض النظام".

تعترض عقيدة (الغصبية) في عصر الغيبة مع موضوع السلطة, فسعى الى إيجاد تأويل عقلي لهذه الإشكالية عبر إعادة انتاج قسمة الفقهاء الأوائل (مثلا ابن ادريس قسمها الى حق الآدمي وحق الله), فقسّم المشروعية الى حق الناس من خلال الحكم الدستوري وحق الإمام من خلال الإمامة الإلهية, فأحال السلطة من الشخصية القهرية الاستبدادية الى الدستورية المقيّدة التمثيلية, بانيا على ثلاث معطيات:
  1. وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
  2. الوظائف الحسبية, أي ما يتصل بالشأن العام الذي لا يحتاج الى تدخل الشريعة, حيث أن "حفظ النظام وسياسة أمور الأمة واجب حسبي واختيار الأفراد تابع لخصوصيات الأعصار ومقتضيات الأمصار" مع إشارته الى عدم حصر الولاية العمومية في الفقيه, بل تتجاوزه الى حق عموم الملة في المراقبة والمحاسبة (الشراكة السياسية).
  3. وجوب رفع يد المتسلط عن الأوقاف العامة والخاصة, من خلال إيجاد دستور يصوغ الحقوق ويرسم كيفية إقامة وظائف السلطة, وانتداب سلطة رقابية (مجلس شورى) على من يقومون بوظائف السلطة.
إن مضمون رسالة النائيني يظهر تمثّله الفكر السياسي الحديث والفقه الدستوري الأوروبي لتأسيس رؤية دينية للسلطة, فقد أثنى في أكثر من مكان في رسالته على الذين كشفوا الصيغة المثلى للسلطة (العقد الاجتماعي), في إشارة للأوروبيين (لوك وروسو). وفي رسالته يظهر دفاعا مستميتا عن الديمقراطية ويكيل الثناء عليها واعتبرها جانب من جوانب (السعادة) ووضعها شرطا لتحقق السلطة وإقامة وظائفها. لقد بيّن النائيني عن وجود تخارج بين الديمقراطية كفكرة وكممارسة, فإن الإجماع على مفهوم محدد للديمقراطية لا يعني مطلقا الإجماع على سبل تطبيقها, وإنما هي تتخذ شكلها وطبيعتها الخاصة من المجتمع الذي تحيا فيه وتبني نظامه الخاص وشبكة العلاقات والمنافع بين فئات المجتمع.

إن النظرة الى تشكيل السلطة لدى النائيني تنفصل تاريخيا عن الوعي الشيعي الإمامي, كما تقطع كليا مع التكوين السياسي للفقيه الشيعي, فهو يرى أن الولاية الزمنية في عصر الغيبة هي للأمة, وأن ولاية الأمة على نفسها شأن سياسي لا شأن شرعي, لا بمعنى المحايزة بين السياسي والشرعي, وإنما بالمعنى الزمني اذ أن عدم إمكانية تحقق الإمامة الإلهية, يفتح المجال للأمة في تحقيق سلطانها عبر إقامة سلطة مقيدة بمجلس شورى منتخب.

يقسّم النائيني السلطة الى نوعين, السلطة الشخصية الجائرة, التي اعتبرها من بدع الظالمين والطواغيت ولا بد من تغييرها, والسلطة الولايتية المشروطة, والتي تقوم على أداء الوظائف والمصالح النوعية المتوقفة على وجود السلطنة, فالسلاطين في هذه الحالة أمناء للنوع ومسؤولون لأفراد الأمة. وفي سياق إدراكه, يرى أن السلطة الجائرة هي عبارة عن اغتصاب للرداء الكبريائي لله, واغتصاب لمقام الإمامة, واغتصاب لرقاب البلاد, بينما السلطة المشروطة محصورة في اغتصاب مقام الإمامة. وقد رد على أنصار المستبدّة القائلين بأن الدستور بدعة, حيث أنه ساواه مع الرسالة العملية وذلك لوجوب وجوده بغاية حفظ النظام ولعدم تعارضه مع القوانين الشرعية. لقد انطلق النائيني في أطروحته لتأسيس سلطة عصرية غير متصورة في التراث السياسي الشيعي, بهدف الإجابة على المأزق التاريخي في الفكر السياسي الشيعي, ممثلا في انسداد أفق الإمامة.



اتجاهات التغيير السياسي وانتصار الفقيه على الدولة

الإصطراع الفكري

مع قيام الدولة البويهية, بدأت تظهر تيارات ثقافية حداثية تتصارع مع التيار الديني من خلال حركة ترجمة ودعوات للإمتثال الكامل مع الحضارة الغربية. وقف التيار الليبرالي مع رضا شاه بنزعة قومية على سيرة أتاتورك في تركيا, بينما كان حزب تودة الشيوعي مرتبطا بالكومنترن. أدت هذه التيارات الى إعاقة حركة الفقهاء وتقلّص دورهم بعد التضييق الذي نتج عن التدابير الشاهنشاهية.

على إثر إنزلاق الشاه نحو التحالف مع الولايات المتحدة من خلال انتشار القواعد العسكرية الأمريكية في ايران والاتفاقيات الاقتصادية المجحفة, نشأ تحالف بين الجبهة الوطنية والجبهة الإسلامية, فتعاون محمد مصدق مع آية الله كاشاني ونجحوا في إسقاط حكومة حسين علا وتم تعيين مصدق رئيسا للوزراء, الا أن مصدق لم يكن يرى دورا لرجال الحوزة في شؤون الدولة التنفيذية, لذى لم يدم التحالف طويلا بعدها, ما أدى لتسهيل الطريق أمام اللواء زاهدي للقيام بانقلاب عسكري دبّرته المخابرات المركزية الأمريكية وأسقط حكومة مصدق. أدت هذه الإنتكاسة الى انكفاء الخط العلمائي الاحتجاجي, فبرز آية الله بروجردي محذرا من انخراط رجال الدين في العمل السياسي. عقب هذه الإنتكاسة, ظهرت مجموعة "انجمن حجتيه" كرد فعل اعتراضي على المذهب البهائي الذي نشأ في عهد القاجاريين, وسمح الشاه لهذه المجموعة بالنشاط شريطة عدم الانخراط في السياسة, فكان من أهم مبادئه تعزيز الإيمان بحتمية ظهور المهدي, وأن مهمة الفرد المسلم في عصر الغيبة ليست إقامة الحكم الإسلامي بل إعداد الناس لانتظار الظهور. ويمكن تصوّر حجم تأثير هذه المجموعة من خلال كتابات علي شريعتي الذي كان موضع هجوم أقطابها. بعد وفاة البروجردي تبنّى الشاه مرجعيّة محسن الحكيم في العراق للزيادة من إضعاف الحوزة في قم, الّا أن هذا لم يمنع من ظهور مراجع احتجاجيون من أمثال الطبطبائي القمي والخميني والمحلاتي.

أدى التبدّل في الواقع السياسي داخل إيران الى انفراز أربع مناهج للتغيير السياسي وإقامة الدولة الدينية وهي:
  1. التغيير العسكري: كان أولها حركة ميرزا كوجك خان وتطوّرت على منظمة فدائيان اسلام بقيادة نواب صفوي وكذلك منظمتا فرقان ومجاهدي الشعب, وكانت تقوم على عمليات ضد أجهزة الدولة وأغتيال الوزراء والمسؤولين.
  2. التغيير الثقافي: كانت ترى أن جذر التخلف ثقافي, ولا بد من العمل على تغيير اساسيات التفكير وبنية الوعي التاريخي والديني عند المسلمين الشيعة, ويقف على رأس هذا النهج مرتضى مطهري وعلي شريعتي.
  3. التغيير السياسي السلمي: وهو يرى أن تغيير السلطة يتم من داخلها, عبر القنوات الرسمية كالبرلمان, وكان حسن المدرّس رائدا في هذا التوجّه, وطوّره مهدي بازركان في تجربة الجبهة الوطنية الإسلامية بما يؤهل العناصر للتسلل والانتشار في الجهاز الدولتي, وقد أعاد العمل بها بعد انتصار الثورة, وزاد اهتمامه بها بعد تصفية التيار الليبرالي بشقيه العلماني والإسلامي على يد الحكومة الإسلامية.
  4. التغيير الثوري الجماهيري: نهج يرى انهدام السلطة على يد الجماهير, وقد انفرد الفقهاء الأصوليون بهذا النهج لاكتسابهم سلطة استثنائية نادرة تقع في دائرة المقدّس. تطور هذا النهج من الميرزا الشيرازي (التنباك) الى الآخوند الخرساني (الحركة الدستورية) الى الكاشاني (حركة التأميم) وتوّجها الخميني (الثورة الإسلامية)
بدأت مع حركة الخميني مفارقة تاريخية مفصلية, كونه أول فقيه شيعي يتطابق أفقه السياسي مع حركته الاحتجاجية, أي أنه أول فقيه شيعي يحمل مشروع دولة ويسعى لتجسيده فعليا. كان التطلع السياسي للخميني حتى انتفاضة خرداد عام 1963 ضمن سياق أنصار المشروطة, ولم تكن تتضمن الإطاحة بالنظام القائم. بل أنه لم يصل في ذلك الوقت الى أطروحة ولاية الفقيه كونه لم يكن حائزا لمرتبة الإجتهاد. ولكن حين نراجع كتابه "كشف الأسرار" الصادر بين عامي 1941 و1942, نرى التصوّرات الأوليّة لأطروحة ولاية الفقيه المطلقة ومفهوم الحكومة الواحدة التي تحقق أمر الله ببناء دولة إسلامية, حيث يضع الفقيه في مرتبة عليا خارج النطاق البيروقراطي. ورغم تمثّله لمبدأ السلطات باعتباره أساس الحكومة الإسلامية, الّا أن هذه السلطات تناور في هامش ضيّق كونها تخضع للقانون الإلهي – فتاوى الفقهاء – مما يجعل دور الدولة الإسلامية مقتصرا على تطبيق الشريعة حصرا ضمن اجتهادات الولي الفقيه. من الصعب العثور على دراسات فقهيّة متخصصة للتحقق من إجرائية مفهوم ولاية الفقيه في تلك الفترة, ما خلا دروس السيد محمد رضا الكلبيكاني في الخمسينات تحت عنوان "الهداية الى من له الولاية" نفى فيها ولاية الفقيه المطلقة رغم اقراره بوجوب إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة وحصر حق تولي رئاسة الدولة في الفقهاء. وفيما كان البحث الفقهي السلطاني يتنامى في الحوزات الإيرانية, كانت النجف قد أجمعت أمرها على الولاية الجزئية للفقيه, حتى وصول السيد الخميني اليها.

لقد خاض الخميني معركة مفتوحة مع الخط التقليدي والولاية الجزئية وبدأ بتقويض مفهومي التقيّة والإنتظار. لقد صاغ الخميني مفهوم ولاية الفقيه تأسيسا على الدليل العقلي وقال "أن ما كان ضروريا أيام الرسول وفي عهد أمير المؤمنين من وجود الحكومة لا يزال ضروريا الى يومنا هذا" وأضاف "لا تقولوا ندع إقامة الحدود والدفاع عن الثغور وجمع حقوق الفقراء حتى ظهور الحجّة, فهلّا تركتم الصلاة بانتظار الحجّة؟". وطوّر بحث ولاية الفقيه في كتابه "البيع" وثبّت فيه مفهوما متقدما للإسلام, المؤدى النهائي له إقامة الدولة, ويكتمل تأطير الحكومة الإسلامية في ولاية الفقيه الحائز على صلاحيات مطلقة بالتماثل مع ولاية النبي والإمام, كما نصّ في كتابه "الحكومة الإسلامية". تقعّدت نظرية ولاية الفقيه المطلقة في الأطروحة الفقهيّة الموسّعة التي قدّمها الشيخ حسين منتظري في محاضرات جمعت في كتاب تحت عنوان "فقه الدولة الإسلامية".

إن الإمام الخميني لم يرتكز على نصوص وروايات قطعيّة وكافية للإستدلال على ولاية الفقيه, وإنما توسّل بالدليل العقلي كجابر لضعف أو حتى غياب الأدلّة. ورغم اكتساح أطروحة ولاية الفقيه للساحة الشيعية بعد انتصار الثورة في ايران, الا ان طبيعة تلك السلطة ظلّت غامضة, فلم يتعرّض لها الخميني في نشاطه الخطابي الجماهيري, ومما زاد الأمور غموضا أن الخميني لم يقحم الولي الفقيه في بيروقراطية الدولة, إنما هو شيء يقع خارج حركة الدولة. على المستوى العملي, فلفترة طويلة بعد انتصار الثورة, لم تتضّح ما هي علاقة الفقيه بالدولة, وعند طرح الموضوع على الملأ في مرحلة تشكيل مجلس الخبراء, حدث جدال واسع في البرلمان الإيراني حين فسّرت بعض الأحزاب أن ولاية الفقيه هي احتكار للسلطة من قبل رجال الدين, وحينذاك اكتفى الخميني بالدفاع عن أطروحته. لم يكن الخميني يحبّذ انخراط رجال الدين في شؤون الدولة التنفيذيّة, فمنع في مرحلة مبكّرة رجال الدين من الترشّح لرئاسة الجمهوريّة, وقرر في وقت لاحق حل حزب "جمهورى اسلامى" المؤلف في الغالب من رجال الدين, بل قرر الانسحاب الى قم لمزاولة وظيفته التقليديّة كمدرّس مع الإشراف غير المباشر على السلطة, الا أن التحديات التي واجهت الدولة في بدايتها اضطرته للإقامة في طهران. مهّد الخميني الطريق لوصول الليبراليين للحكم, مثل مهدي بازركان وبني صدر, وأظهر تأييده لهم, لكن إخفاقهم في الحصول على ثقته أفضى الى تقدّم رجال الدين كبديل. واعتمد الخميني في اتساع ولايته او تضييقها (في غياب النص الدستوري الواضح) على المصلحة التي لا يقدر على تشخيصها الا هو.

برزت إشكالية في أواخر حياة الخميني, عبر إدانة صريحة لولاية الفقيه من جانب السيد علي خامنئي ابان توليه لرئاسة الجمهورية في خطبة صلاة الجمعة بجامعة طهران في 31 ديسمبر 1987 بشأن توسّع وزير العمل في صلاحياته إستنادا على إجازة الإمام, ومعرّضا من طرف بنظريّة ولاية الفقيه المطلقة. فجاء رد الخميني غاضبا مع ما تضمنه الرد من إشارات جديدة لمساحة سلطة الولي الفقيه. الّا أن وفاة الخميني, بعد استبعاده لمنتظري, أوقف المسار الطبيعي لولاية الفقيه وأفقدها مصداقيتها بعد انتخاب خامنئي للمنصب, إذ أنه لم يكن يمتلك المؤهلات الفقهية الضرورية للصعود الى المرتبة المخصصة للفقيه الجامع لشرائط الفتيا. فأصبح الحديث يدور حول "الحاكم الشرعي المبسوط اليد" الحائز على المكنة والقدرة كوظيفة سياسية, لا كمؤهل ديني كمرجع تقليد يلي من أمور الناس ما يلي النبي والإمام وعلى الناس من فقهاء وعوام الإمتثال لأوامره ونواهيه. حاولت الحكومة احتواء مرجعية قريبة من الدولة, فعرضت ذلك على السيد الكلبيكاني الا أنه رفض, فيما قبل السيد محمد علي الآراكي بالعرض وبدأت الحكومة تروّج لمرجعيّته, فيما كان الإعداد جاريا لمرجعيّة الخامنئي لتسوية الإشكاليات المثارة حول ولاية الفقيه.

مع وفاة السيد الآراكي, ظهر مأزق من صعوبة إقامة بديل مرجعي من جوف الدولة, في وجود مرجعيات مخالفة مثل السيد علي السيستاني والسيد محمد الشيرازي وغيرهم. فاستنفرت المؤسسات الرسمية والشبه رسميّة للحيلولة دون انتقال المرجعيّة خارج ايران عبر السعي لتأهيل السيد الخامنئي بهدف تعبئة الفراغ المرجعي الدولتي. ورغم أن الأوساط الحوزوية لم تزل تنظر الى الخامنئي بوصفه قائدا سياسيا غير مؤهل للمرجعيّة, فلقد سعت الدولة لتعبئة الرأي العام من خلال شبكة صلاة الجمعة الى إعادة تعريف المفاهيم مستعينة بشروحات الخميني لها, ففي أحداها يقول "كنت أصرّ على أن شرط المرجعيّة غير ضروري ... الا أن الأصدقاء أصرّوا على شرط المرجعيّة وقبلت أنا, رغم معرفتي بأنه غير قابل للتطبيق في مستقبل ليس ببعيد". كانت النجف هي الأقدر على التعبير عن عمق المأزق السياسي الإيراني, كونها تشعر بعمق خسارة موقعها التاريخي كمركز استقطاب منذ انتصار الثورة الإيرانية. دخلت النضالية السياسية كعنصر فعال في بنية المرجعية الشيعية, فقد أصبحت الدولة قوّة جبّارة في ما يعرف في الفقه الشيعي ب "الشياع المفيد للإطمئنان" كإحدى آليتين يتحقق من طريقهما التقليد. من المعروف أن ليس للخامنئي حتى تاريخ اعلان اسمه كأحد المرشحين رسالة عملية, الى أن صدر كتاب "أجوبة الإستفتاءات" عام 1995 ممهورا بختمه. لقد بذلت الدولة الإيرانية ما في وسعها لتنصيب خامنئي مرجعا أعلى للشيعة ولكنها اصطدمت بصلابة المعادلة المرجعية الشيعية التقليدية, فانسحب ظاهرا من حلبة المنافسة, فيما نشط أنصاره في استعمال أقصى وسائل الإقناع الجماهيري.



الفقيه والدولة في العراق: انقطاع التيار السياسي

بعد إخفاق الحركة الدستورية, تراجع الاستقطاب المرجعي في قم والنجف وانحصر في كربلاء التي أصبحت الوارث التاريخي لحركتي التنباك والدستور. وتبيّنت فعالية هذا المركز على أثر محاولة بريطانيا السيطرة على العراق عام 1916 حيث تم مواجهتها ببسالة ما أضطرهم الى اعلان التزامهم بإنشاء حكومة وطنية في العراق وتم طلب رأي العلماء والوجهاء الذين أجمعوا على الاستقلال وقيام حكومة عربية, الا أن مرجع النجف الأعلى في وقتها, السيد كاظم اليزدي, اعتذر عن الالتزام بالإجماع بقوله "كرجل دين, لا أعرف غير الحلال والحرام ولا دخل لي بالسياسة مطلقا" ما أدّى الى صدمة وانتشار شائعات مفادها أن اليزدي على علاقة وثيقة مع الأنكليز ويحظى بدعمهم. برزت كربلاء كبديل فعّال, حيث تصدّى الميرزا محمد تقي الشيرازي لزعامة الثورة وأصدر فتواه الشهيرة عام 1919 ونصها "ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب أو يختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين" ما أدى الى تبدّل مسار السياسة البريطانية الى منحى أكثر عدوانية, خاصة بعد اغتيال الحاكم العسكري الإنكليزي في النجف. نجح الشيرازي في خلق تلاحم قل نظيره في الساحة العراقية, خاصة بين السنة والشيعة, في مواجهة العدو المشترك بريطانيا, فبدأ الشيعة يصلون في مساجد السنة والعكس. على إثر المطالبات التي أعلنها الشيرازي بالحقوق وقيام حكومة إسلامية (أقصى مطالبة لفقهاء الشيعة بعد الغيبة الكبرى حتى تاريخه) بدأت ثورة العشرين بعد فتوى الجهاد الشهيرة التي أصدرها الشيرازي. ورغم إخفاق ثورة العشرين للعديد من الأسباب, أثبتت الأحداث فعالية المرجعية الدينية في الساحة السياسية.

قام الإنكليز بتعيين فيصل ملكا على العراق, فانقسم الشارع العراقي الى قسمين, الأول مثله السيد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني اللذين قاطعا ترشيح أي حاكم على العراق في ظل الإنتداب, ما أدى الى إبعادهما الى إيران. أما الفريق الثاني فتمثل بالسيد محمد الصدر, الذي بايع فيصل في مذكرة وقّع عليها الكثير من العراقيين, والشيخ مهدي الخالصي, الذي شرط بيعته بأن يكون الحكم دستوريا نيابيا دون تقيّد بأية قوة أجنبية, ثم ما لبث أن خلع البيعة وأعلن معارضته ما أدى الى نفيه الى مكة المكرمة ومن ثم انتقال الى إيران. أدى هذا الإقصاء لرموز الفريق الاحتجاجي الى تمدد سيطرة الخط المنافس الأكثر اعتدالا وتحفّظا, مع استيعاب فكرة ولاية الفقيه الجزئية (الأمور الحسبيّة), وبتولّي السيد محسن الحكيم سدّة المرجعيّة, يكون خط الولاية الجزئية قد أحكم بنيانه. وبعده أتى السيد أبو القاسم الخوئي الذي أظهر حماسة عالية في الرد على القائلين بولاية الفقيه المطلقة بقوله "إن الأخبار الدالّة على الولاية المطلقة, قاصرة السند والدلالة". فتموضع الخلاف في إطار إشكالية النقل والعقل, فالفقيه بحسب هذا الإتجاه فاقد لأي ولاية مفروضة من الشرع, وإنما حيازته للولاية نابعة من مكنته الفقهية. أدّى هذا الإتجاه الى ضيق في الأفق السياسي لدى حوزة النجف ما نتج عنه رد فعل بظهور مرجعيّة شابّة في كربلاء (السيد محمد مهدي الشيرازي) والنجف (السيد محمد باقر الصدر) تستخدم بنى سياسية حديثة ممثلة بالأحزاب الدينية المنبثقة من داخل المؤسسة الحوزوية.

أدى انتصار الثورة الإيرانية الى اضمحلال فكرة الولاية الجزئية برحيل آخر أقطابها (الخوئي) وظهور اتجاه جديد يجسّر الفجوة بين المطلقة والجزئية من أبرز رموزه السيد عبد الأعلى السبزواري والسيد علي السيستاني والسيد محمد حسين فضل الله, فظهر بعض التطابق في الأحكام الفقهية ذات الطابع السلطاني (وجوب إقامة صلاة الجمعة عند المذكورين, الجهاد الابتدائي عند فضل الله ...). بحث السبزواري مسألة ولاية الفقيه وفرّق بين نوعين من الفقهاء, الفقيه الجامع للشرائط الذي ينوط به صلاحية الفتوى والقضاء والزعامة العامة, والفقيه المبسوط اليد الذي تتسع ولايته بازدياد بسط يده, الا أنه يوقف التمدد اللامتناهي للولاية بقوله "الجزم بإطلاق الولاية مشكل". بينما دحض السيستاني استدلال الخميني على ولاية الفقيه المطلقة, تلك الولاية التي تنحل الفقيه صفة المشرّع عبر قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" كون ذلك تعديا على الله سبحانه, المالك المشرّع. ويحصر السيستاني ولاية الفقيه في الحيّز التنفيذي. وفي نفس السياق, فصل فضل الله بين المفتي والحاكم, فاعتبر أن الحاكم هو "الذي يرجع اليه في الموضوعات التي يبتلى بها المكلف على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة" و"أن حدود ولايته تتسع حسب سعة النظام العام". ونرى أن أصحاب هذا الإتجاه يلتزمون بالإستدلال العقلي وبنفي الطابع النصوصي عن ولاية الفقيه.



الحزبية الشيعية: سعيا الى الدولة الدينية

إن الرابطة الوثيقة بين الحركة السياسية الشيعية والمرجعيّة كانت وليدة الاستقرار المتأخر لعلاقة الفقيه بالمجتمع والتي بدأت مع فتوى السيد كاظم اليزدي في نهاية القرن التاسع عشر ببطلان عمل العامّي بدون تقليد. فمن خلال أدواتها, استطاعت المرجعيّة الحفاظ على استقلالها وتحرّرها من ضغوط السلطة عبر الكفاية المالية التي أمنت القدرة على تحقيق النفوذ الاجتماعي من خلال المؤسسات الخيرية والتربوية وانتشار الوكلاء. الّا أن عدم تجيير عناصر القوة هذه الى المجال السياسي أدّى الى فشل الأحزاب الإسلامية التي ظهرت بعد ثورة العشرين (حزب النهضة الإسلامية, حركة الشباب المسلم ...) في كسر الجمود الاجتماعي. الّا أنّ تصاعد المد الشيوعي, بعد نجاح انقلاب عبد الكريم قاسم, أدى الى استنفار المرجعيّة بناء على املاءات الدين للوقوف في وجه تيار الحادي متماهي مع السلطة. صدرت فتاوى توصم الشيوعية بالكفر والإلحاد, وحققت رواجا في المحيط الشيعي وتبنى البعثيون والناصريّون الفتوى وأصبحت سلاحا من أسلحة صراع القوى في العراق. الّا أن الحزبية السياسية الشيعية – متمثّلة بحزب الدعوة – نقلت مفهوم الحزب من النطاق الشرعي الى النطاق الوظيفي, فالفكرة الحزبية ترد الى حقل الموضوعات (التي تختلف أحكامها باختلاف ظروفها وأحوالها) لا حقل الأحكام.

حزب الدعوة الإسلامية

شهدت الساحة العراقية منذ منتصف القرن نشاطا حزبيا إسلاميا, بدأ مع تدشين حركة الإخوان المسلمين عام 1948 فرعا لها في العراق بقيادة الشيخ محمود الصواف. وفي منتصف العقد الخامس أسس حزب التحرير فرعا له في العراق على يد الطلبة والأساتذة الأردنيين. نشّطت تجربتا الأخوان والتحرير وعي الشيعة العراقيين ونبّهتهم لضرورة العمل الحزبي. ثمّ جاء انقسام السلطة بين عبد الكريم قاسم (ومعه الشيوعيّون) وعبد السلام عارف (ومعه البعثيّون والناصريّون) الذي دفع الى تشكيل أول حزب شيعي أطلق عليه السيد محمد باقر الصدر إسم حزب الدعوة الإسلامية, فكان هذا الفعل تظهيرا للمفارقة بين الطبقة الثانية من السلم الحوزوي وقمّة الهرم.

رغم يقين الحزب باحتواء الإسلام لنظرية سياسية, الا أن التراث الداخلي للحزب لا يترجم تلك العقيدة في هيئة نظرية سياسية متكاملة, بل تجد نصوص واجتهادات متبعثرة ومستعارة من أحزاب إسلامية سنيّة أو من مراجع فكرية أجنبية, بما يثير لبسا حقيقيا حول أصل الدولة وموقعها في النظام الشرعي الإسلامي. ثمة إجماع دعوي أن العودة بالإسلام الى الواقع الاجتماعي يتم بالنصاب السياسي, أي بإقامة الدولة الإسلامية, وبحسب نظام المراحل الدعوية, فإقامة الدولة الإسلامية تأتي في المرحلة الرابعة أي بعد تشبّع المجتمع بالدعوة. فنرى من خلال ذلك سبب غياب أطروحة الدولة حتى منتصف السبعينات, حيث ذكر أحد رموزه "لم يكن لدى الحزب نيّة في الحكم حتى تكون له نظريّة في الحكم". إلا أن التحولات الإقليمية, زائدا الصراع السياسي المبكّر مع حكومة بغداد وأطروحة مرجعيّة السيد الصدر نشّطت الوعي السياسي لدى قيادات الدعوة. وفي قراءة تراث السيد الصدر نرى المحاور التالية في دراسة ماهية الدولة الإسلامية:
  1. مفهوم الدولة الإسلامية: إن الدولة الإسلامية في وعي السيد الصدر تندرج في سياق الرؤية الكونية الشموليّة للإسلام, وعلى الضد من الدولة الوضعيّة الحديثة, فإن قيمومة الدولة الدينية لا يتم بالنصاب السياسي, بل بالنصاب التربوي. فالدولة هي وسيط ضروري لإعادة بعث الإسلام وتأهيل الأفراد للإنخراط في المجتمع الإسلامي المنشود. ويظهر مصطلح "الدولة العقائدية" التي يعرّفها الصدر بأنها الدولة "التي تضع الله هدفا للمسيرة الإنسانية" لذلك فإن مشروعية الدولة تتوقف على ما تحققه من وظيفتيها وهما "تربية الإنسان على القاعدة الفكرية, ومراقبته من خارج وإرجاعه للقاعدة الفكرية إذا انحرف عنها". فالدولة بما هي إطار للسلطة تعد محايدة لكونها تنحصر في تنظيم تداول السلطة, ولكنها غائية بما هي تعبير عن أمة يراد منها الاستخلاف في الأرض وإقامة العدل.
  2. تكوين الدولة الإسلامية: لدى قراءة مصنفات الصدر في المجال السياسي, نرى مزيج بين ثلاث عناصر, تراث الفقه السلطاني الشيعي + الوعي الخاص للنص القرآني + استيعاب الفكر السياسي الحديث. يؤكد الصدر على شرعية ووجوب الدولة الإسلامية في عصر الغيبة "يتوجب الأمر فيه الى عموم المسلمين". وعلى المستوى الوعي الخاص بالنص القرآني, تتمحور تصوراته على مفهوم "الإستخلاف" مأخوذة من "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة", إذ أنه يؤصل حق الأمة في انتاج سلطتها عبر تحملها الأمانة الإلهية, في أسلمة لمفهوم "التعاقد الاجتماعي". فشرط استحقاق الاستخلاف يكمن في امتثال الفرد للمسؤولية أمام الجماعة التي استخلفته وانسجامه مع مسؤوليتها أمام الله تعالى في ثنائية إلهيّة/بشريّة.
  3. شكل السلطة: إن الإجماع الدعوي على وجوب الدولة الإسلامية لم يكن مصحوبا بإجماع مماثل على شكل السلطة, بل كان ذلك مرتبطا بالتحولات الحزبية والمتغيرات الخارجية. ففي المرحلة الأولى بين عامي 1958 – 1977, كان الفكر الحركي الدعوي منسجما في خطوطه العريضة والعامة مع الفكر الحركي السني من خلال الأخذ بصيغة الشورى والإنتخاب كشكل للسلطة في الدولة الإسلامية المنشودة. لكن انتصار الثورة الإسلامية في ايران بالتزامن مع أطروحة مرجعية السيد محمد باقر الصدر, بدأ الأخير بمحاكاة أطروحة ولاية الفقيه عند الإمام الخميني. إلا أن بلوغ هذا التماهي لم يتم بصورة طبيعية, إذ سبقه مرحلة من القطيعة المصحوبة بالعدائية والمحاربة الكلامية مع الخميني, مما قيل فيها "الخميني مطيّة الشيوعيين". إلا أن اندلاع المظاهرات في المدن الإيرانية عام 1977 ورحيل الخميني الى باريس, دفعت الصدر الى حشد الجماهير خلف الثورة, فمن أشهر تصريحاته "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام". وأمام موج الثورة الإيرانية المتصاعد وغياب الصدر, كان انتقال الحزب الى ايران يتجاوز الحد المكاني بل انتقال للفكر الحركي معرّضا بالإستراتيجية الحزبية عموما. فانشقّت المرحلة الثانية عن اتجاهين حزبيين, واحد متمسّك بالشورى وآخر يحاول استيعاب أطروحة ولاية الفقيه بناء على ما كان قد طرحه السيد الصدر. فقد نظّر الصدر الى أن استحقاق المرجع للولاية العامّة مرهونا بتحقق خط الشهادة الذي يتضمّن استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها, الاشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة, التدخّل لمقاومة الإنحراف.
باستثناء السيد مرتضى العسكري (من المؤسسين الأوائل لحزب الدعوة) الذي تبنّى أطروحة البيعة كأساس لمشروعية الحكم الإسلامي, فإن منظري الحزب استنفروا لجهة استيعاب أطروحة ولاية الفقيه. فصدرت أول دراسة للسيد كاظم الحائري قوّض فيها أطروحة الشورى ونفى وجود مستند شرعي لها إطلاقا, وانتصر لأطروحة ولاية الفقيه مستوعبا فيها أدلة الشورى. ومن النتائج المثيرة لهذا الإختلاف هو الإنشقاق الحلقة الى تيارين بعد النقاش الضاري منذ مؤتمر القواعد 1979 وتجدده في مؤتمر الإمام المهدي 1980, فكان التيار الأول من المتماهين مع ولاية الفقيه (يعرف بجناح البصرة) أبرز وجوهه الشيخ علي الكوراني, انشق عن الحزب الأم وأسس حركة باسم "الدعوة الإسلامية" انتهت عقب انبثاق فكرة "حزب الله", حيث نظر الكوراني لهذه التشكيلات في كتابه "طريقة حزب الله في العمل الإسلامي" بوصفها "حالة جماهيرية علمائية مسجدية ... مؤطرة سياسيا وليست مؤطرة تنظيميا". أما التيار الثاني فظل متمسكا بكينونة الحزب مع التزامه بأطروحة ولاية الفقيه, يقود التيار الشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ كاظم الحائري, الا أن الحائري ما لبث أن انشق عن الحزب ما أحدث فراغا في منصب الفقيه, فمال عدد كبير من الدعاة الى السيد محمد حسين فضل الله, لكن الجانب الإيراني ضغط باتجاه "أيرنة" الحزب, ما دفع الشيخ الآصفي الى حسم السجال الحزبي وتقدّم بمبايعة الخامنئي وليا للمسلمين. أثارت هذه الخطوة حفيظة مجموعة من كوادر الدعوة إذ "لا يمكن تنصيب فقيه غير عراقي وليا على العراقيين ... فضلا عن أن السيد الخمنئي لا يجسد المصداق الحقيقي للولاية". إن الإرباك في الخطاب السياسي للحزب (التعارض بين تبنّيه لولاية الفقيه في إصداراته وما نص عليه من تبنّي الشورى والإنتخاب في "برنامجنا") يرد الى حقيقة عجز الحزب عن استدراك الفجوة بين الرصيد الدعوي وبين الحاجات المستجدة منذ بداية الثمانينات, ما أدى الى ظهور إزدواجية الخطاب السياسي.

منظمة العمل الإسلامي

في كربلاء, كان نشاط السيد محمد الشيرازي يقوم في إطار نظرة لإعادة أسلمة المجتمع عبر الدولة الإسلامية, أي من أعلى, على عكس حزب الدعوة. هذا التمايز ظهر من خلال حيازة منظمة العمل الإسلامي على أطروحة للدولة الإسلامية وتماهي الحزب مع المرجعيّة, على عكس حزب الدعوة. وقد ردّ السيد حسن الشيرازي في كتابه "كلمة الإسلام" على حزب الدعوة من خلال الإنتصار لحركة الفقهاء ونقد الأحزاب الإسلامية لتحدر زعامتها من خارج الهرم المرجعي واعتمادها النظام الحزبي في مجالات انتخاب القيادة (أكثرية الأصوات) والتطرف بتقديم السياسي على الديني. هذا الرأي مستمدّ من المدونات المتعلقة بولاية الفقيه للسيد محمد الشيرازي والذي تتلخص فكرته في أن الإعتقاد بنيابة الفقيه عن الإمام يفضي دائما الى القول بوجوب إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة, وبطبيعة الحال, ينزع مضمون هذه العقيدة مشروعية الدول غير الخاضعة لسلطة الفقيه. وبالتوازي, ينفي الشيرازي حق الأمة في انتخاب الحاكم ويقصر هذا الحق على الحقل الحوزوي, أي سحب عملية التقليد الى الحقل السياسي. كذلك فإنه يستوعب النظام البرلماني من خلال إعطاءه دور تنفيذ القوانين (تطبيق الأحكام الكلية على الموارد الجزئيّة) لا تشرعيها, لأن التشريع خاص بالله تعالى والقدرة على استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها يحوزها الفقهاء حصرا. فبينما يخرج الخميني الفقيه من بيروقراطية الدولة ويخصه بمقام الإشراف, يقحم الشيرازي الفقيه في الجهاز الدولتي مؤسسا بذلك لنظام شمولي يجمع فيه الفقيه المرجعيتين الدينية والسياسية, مع عدم تحديد زمن لمكوث الفقيه في السلطة, على عكس الشهيد الصدر الذي يربط الزمن بتأهيل العامّة حتى يستلموا زمام أنفسهم.

طرح محمد تقي المدرسي نظرية القيادة الإسلامية في نهاية الستينات, حيث بنى على إخفاق حركة الأخوان المسلمين بسبب غياب الوعي القيادي في الحركة بعد اغتيال البنّا, ورأى بأن المرجعية الشيعية قادرة على لعب هذا الدور "الفقيه القائد" لاشتمالها على عوامل قوة وقدرة لا حصر لها (القاعدة الشعبية, الأموال الطائلة, السلطة الدينية ...). يبني المدرّسي فكرة القيادة على أساس فكرة الحاكمية الإلهية التي طرحها أبو الأعلى المودودي وشرحها سيد قطب "أن الحكم لله وحده ... فحاكمية الله في حقل التشريع تنتهي الى سيادة الدين" وبما أن الفقيه العادل هو الأعلم بالدين, فإنه الأحرى بالقيادة, بل أن "سيادة غيره شرك بالله".

ما إن دقّت أبواب التسعينات, حتى شهدت الحركة سجالا داخليا حول مسألة القيادة الحركية, إذ ظهر نفور شديد من فكرة شخصنة القيادة, حيث أصبحت موقعية القائد أصلا يتجاوز في قوته أصل الحركة. أعيد طرح موضوع الشورى, فاستنفرت القيادة لاحتوائه, بداية عبر إتهام متبنّيه بالمصلحة الشخصية, ومن ثمّ جرت عمليّة استيعاب لأطروحة الشورى ضمن ولاية الفقيه على غرار ما قام به حزب الدعوة. نشأت الإزدواجية في الخطاب السياسي للحركة, وربما استفادت من مبدأ التقية في التراث الشيعي لتعزيزها, ففي مقابلة مع المدرّسي (قائد الحركة) حول طبيعة السلطة التي يفضلها في العراق, دعا الى "التعددية والحرية السياسية والى إقامة نظام ينسجم مع الشعب العراقي".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رأي - شو رح يصير فينا؟

ملخّص - مؤتمر وادي الحجير وآثاره - منذر محمود جابر

رأي - فليحكم الإخوان!